[اشتراط استحالة تواطؤ الرواة على الكذب في الحديث المتواتر]
الشرط الثالث: أن تحيل العادة تواطؤهم على الكذب.
وعندما فتحت الفتوحات بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن أتى بعده من الخلفاء والملوك والرؤساء؛ أرسل الصحابة والعلماء إلى جميع الأمصار يعلمونهم أمر دينهم، فنزل كل صحابي في قرية أو مدينة وبث فيها ما عنده من علم، مثل عبد الله بن مسعود نزل الكوفة، ومعاذ بن جبل ذهب إلى اليمن، ودخل الأسود والأبيض في الإسلام، وسمع الحديث والفقه والعلم، وظهر المحدثون والرواة من العبيد والأحرار، بل والنساء، ففي هذا الوقت كان إذا أتى من طريق المدينة برواية المدنيين حديث:(من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)، ثم أتى بلفظه ومعناه من طريق المكيين، وطريق الأندلسيين مع اختلاف الناس في ألسنتهم وطول المسافات بين بلدانهم دل على أن الحديث أصل، وأنه لا يمكن أبداً أن يجتمع هؤلاء الناس على كثرتهم على الكذب أبداً.
ونحن المحصورين في المسجد لا يمكن أن نجتمع على الكذب، فكيف بالقرون الأولى -القرون الخيرية- التي يغلب عليها الصدق، وأحدهم مغربي والآخر شامي، وهذا شمالي وهذا جنوبي، وكلهم يروون الحديث على هيئة واحدة؟ فلا يمكن للأمة أن تتفق على الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولا يمكن عقلاً ولا عادة للأمة أن تتفق على مسألة واحدة إلا إذا كانت حقاً وصدقاً، وأما أن يتواطئوا ويتكاتفوا ويتفقوا على الكذب على رسول الله فهذا أمر لا يمكن؛ لأن العادة والعقل يقولان: إنه لا يمكن للناس أن يتفقوا على شر فيما بينهم.