[تقديم الحديث القولي على الحديث الفعلي عند التعارض]
والحديث القولي أقوى من الحديث الفعلي، وهو عام للأمة ما لم يأت ما يقيده أو يخصصه.
وهذا من أحد المرجحات بين الأحاديث، فإذا وقع التعارض بين دليلين نظرنا ما إذا كان أحدهما ضعيفاً أو قولياً.
والمرجحات تبلغ أكثر من خمسين مرجحاً.
وأما الحديث الفعلي فقد يكون خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وليست أفعال النبي صلى الله عليه وسلم تشريعاً للأمة إلا إذا كانت في مجال التشريع لا الخصوصية، فإن كانت في مجال الخصوصيات -أي: فيما يمس شخص النبي صلى الله عليه وسلم- فلا شك أنها مقصورة عليه، وهذا أيضاً يحتاج إلى دليل.
والشاهد: أن الحديث القولي أقوى من الحديث الفعلي، فعند التعارض يقدّم القولي على الفعلي إذا لم يكن الجمع بينهما ممكناً، فإعمال الدليلين خير من إعمال أحدهما وإهمال الآخر، وإعمال الدليلين أي: أخذهما والجمع والتأليف بينهما، فالعمل بهما خير من اختيار أحدهما ورد الآخر.
ومثال ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من شرب قائماً فليستقئ)، وهذه الرواية فيها نظر، وهي في صحيح مسلم.
ولما رأى رجلاً يشرب قائماً قال: (أتحب أن يشرب معك الهر؟ قال: لا يا رسول الله! قال: والذي نفس محمد بيده لقد شرب معك من هو شر منه، الشيطان).
وروي الشرب قائماً من فعل علي بن أبي طالب ورفع هذا الفعل إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
فنقول: إن القولي مقدم على الفعلي، والأحاديث التي ورد فيها النهي عن الشرب قائماً أحاديث قولية، والأحاديث التي ورد فيها جواز الشرب فعلية، فنقدم الأحاديث القولية التي تنهى عن الشرب قائماً على الفعلية التي تجيز ذلك، والجمهور قالوا بكراهة الشرب قائماً كراهة تنزيه، والظاهرية قالوا بالحرمة، وتبعهم على ذلك شيخنا الشيخ ناصر الدين الألباني.
واستدل الظاهرية الذين قالوا بحرمة الشرب قائماً بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما شرب قائماً في موسم الحج، فلعله لم يستطع أن يشرب قاعداً من الزحام فشرب قائماً، وقالوا: وهذا فعل منه صلى الله عليه وسلم وليس قولاً، فقوله للأمة بالتحريم وفعله لنفسه بالجواز، وهذا مقصور عليه هو دون الأمة.
فأولوا الحديث الفعلي في الشرب بأنه مخصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا التأويل يرد عليه فعل علي أنه قام فشرب، ولو كان مخصوصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم لكان علي بن أبي طالب أفهم لهذه الرواية منهم.
وكانت القرب عند العرب تعلق على الأشجار والجدران حتى لا تمسها الهوام والدواب وغيرها، وكانوا يشربون منها قياماً للعذر، إذ كان يتعذّر عليهم فك الحبل أو قطعه حتى يجلسون للشرب ثم يربطونه مرة أخرى؛ لأن الحبل لو انقطع مراراً في اليوم الواحد فسينتهي بكامله، وهذا عذر يبيح الشرب قائماً.
والراجح فيها جواز الشرب قائماً مع الكراهة، وهذا رأي الجمهور.