للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومن هذا الوجه يُعْتَبر الاجتهاد في المناط المقدمة الضرورية لإجراء القياس.

أما كون الاجتهاد في المناط يتعلَّق بالنظر في أهم ركنٍ من أركان القياس فذلك لأن الأنواع الثلاثة للاجتهاد في المناط تشترك كلها في أنها تَرِدُ على العِلَّة، إما لتنقيحها إذا كانت العِلَّة منصوصةً واقترن بها من الأوصاف ما يصلح للعلية وما لا يصلح، أو لتخريجها إذا كانت العِلَّة مُسْتنبَطة، أو لتحقيقها في الفرع سواءً ثبتت العِلَّة في حُكْم الأصل بالنصِّ أو الإجماع أو الاستنباط.

وقد ذكر الأصوليون الأنواع الثلاثة للاجتهاد في المناط ضمن مباحث العِلَّة، وصرَّحوا بأن المقصود بـ" المناط" في اصطلاحهم - هنا - العِلَّة واعتبروه أحد إطلاقاتها كما تَقَدَّم (١).

والعِلَّة أهم ما يُعْتَنَى به في باب القياس على الإطلاق؛ لأنها ركن القياس الأعظم، وهي الطريق الموصل إلى أحكام الوقائع المتجدِّدة التي لا حصر لها (٢).

ولا ريب أن القول بعدم اعتبار العلل الشرعيَّة قولٌ يفضي إلى تعطيل الشريعة في الأزمنة المتجدِّدة؛ لأنه لابدَّ من حدوث وقائع لا تكون منصوصاً على حكمها، وعند ذلك إما أن يُتْرَكَ الناسُ فيها مع أهوائهم، وهو خلاف المقصود من إنزال الشرائع والتعبُّد بها، أو يُنْظَرَ فيها بغير اعتبارٍ للمعاني والأوصاف التي أناط الشارع الأحكام بها، فيُجْمَعُ بين المُختلِفات ويُفرَّقُ بين المتماثلات، وهو مناقضةٌ لقصد الشارع، وإهدارٌ للمعاني التي علَّقت الشريعة الأحكام بها وجوداً وعدماً، ومجانبةٌ للعدل الذي أنزل الله به الكتب وأرسل من أجله الرسل.

قال ابن تيمية: " القياس الصحيح حقيقته التسوية بين المتماثلين، وهذا هو العدل الذي أنزل الله به الكتب، وأرسل به الرسل، والرسول لا يأمر


(١) ينظر: (٣١ - ٣٣).
(٢) ينظر المعتمد: (٢/ ٦٩٢)، البحر المحيط للزركشي (٧/ ١٤٢)، نبراس العقول (٢١٥).

<<  <   >  >>