قوله:(تغيّر الناس جداً وفشت البدع)، والبدع مع وجودها لم تفش فشواً ظاهراً ويُبتلى بها الناس إلا في القرن الثالث الهجري، يعني في عهد المأمون وما بعده، لأن المأمون فتح المجال للبدع ونصرها، فنصر مذهب الجهمية والشيعة، حتى أن بعض البدع العملية التي لم تكن تعرف عند الخوارج والشيعة، ولا عند المرجئة ولا القدرية، ما أظهرها إلا المأمون، بمعنى أنه تنفست الفرق التي كانت تعمل ببدعها سراً فأظهرتها، بل صدرت بعض التعليمات من الخلافة في تأييد بعض البدع مثل الذكر الجماعي بعد الصلاة، وإعلانها على الملأ، وجعلها من الرسميات في بعض الجوامع، فهذا ما قصده المؤلف هنا بفشو البدع، أي بدع الأذكار والأعمال والعقائد وكثرة الدعاة إلى غير سبيل الحق؛ لأن الجهمية والمعتزلة وسائر الفرق بدأت تظهر أعناقها وترفع راياتها وتستجلب الناس أو تتنافس عليهم، ووقعت المحن وعلى رأسها محنة القول بخلق القرآن، محنة الجهمية والمعتزلة، ومحنة الرافضة، وفي هذا الوقت كفّر الناس بعضهم بعضاً، واستهووا الجهّال والرعاع أكثر من ذي قبل، وأطمعوا الناس في أمور الدنيا بالترغيب والترهيب، حصل هذا بشكل واضح أيام المأمون حينما كانت وزارة الدولة بأيدي الجهمية والمعتزلة كـ ابن أبي دؤاد وأمثاله.
ثم قال بعد ذلك:(فصارت السنة وأهلها مكتومين)، يقصد بهذا أيضاً وقت المحنة.
(وظهرت البدعة وفشت، وكفروا من حيث لا يعلمون من وجوه شتى، ووضعوا القياس)، هنا أشار إلى مناهج أهل الأهواء واختلال مصادر التلقي عندهم، ومن مناهجهم تكفير المخالفين لهم والتكفير بغير علم، ومن مناهجهم وضع القياس في العقيدة، أي: قياس الشاهد على الغائب، وقياس عقائد المسلمين على عقائد الفلاسفة واليونان والمجوس والصابئة واليهود والنصارى.
ثم قال:(وحملوا قدرة الرب)، ويقصد بها عموم الصفات (وآياته وأحكامه وأمره ونهيه على عقولهم وآرائهم)، يعني: أخذوا يقررون الدين بعقولهم، فيقررون العقيدة بما فيها ما يتعلق بذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله بمجرد العقول والآراء، فما وافق عقولهم قبلوه، وما خالف عقولهم ردوه، (فصار الإسلام غريباً، والسنة غريبة، وأهل السنة غرباء في جوف ديارهم).
والغربة نسبية، فهي غربة عن موقع الصدارة ليست غربة عن الوجود، فقد كان السلف رغم وجود الأهواء إلى بداية القرن الثالث هم أهل الصدارة وهم أهل الحل والعقد، وكان كل شيء بأيديهم حتى السلطان، فكانوا أعزّة، وكانوا أقوياء، وكانت الجماعة محفوظة والسنة ظاهرة مشهورة، وعامة المسلمين على السنة لا يخرجون عن أهل العلم قيد شعرة، حتى جاءت هذه الفتنة ففتنت الناس حتى العامة، صار عندهم اختلاط في العقائد، وفُتن الرعاع الجهّال كما قال الشيخ، ومن هنا ظهرت الغربة في جوف ديار الإسلام -غربة الصدارة- وصارت الصدارة لأهل الأهواء حتى انجلت الفتنة على يد إمام السنة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وقيّض الله المتوكل وبعض الخلفاء الذين جاءوا بعده، فأعادوا للسنة هيبتها وقوتها من جديد، لكن بعدما وجد الجرح المنكي في الأمة وإلى اليوم، وحسبنا الله ونعم الوكيل!