[دور الهمج الرعاع في نشأة البدع وتثبيتها]
قال أبو محمد الحسن بن علي البربهاري رحمه الله تعالى: [واعلم أنه لم تجئ بدعة قط إلا من الهمج الرعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، فمن كان هكذا فلا دين له، قال الله تبارك وتعالى: {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} [الجاثية:١٧]، وقال: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} [البقرة:٢١٣] وهم علماء السوء وأصحاب الطمع والبدع].
في هذه الفقرة أشار الشيخ الإمام رحمه الله إلى سمة هامة من سمات أهل الأهواء والبدع، وإلى خصلة ينبغي أن يتنبه لها في كل عصر، وهي أن غالب أتباع أصحاب البدع من العوام وأشباه العوام، الرعاع والذين ليس عندهم علم ولا فقه من الغوغاء، وهم الهمج الرعاع أتباع كل ناعق، وأهل الأهواء أول ما تبدأ الفتنة منهم باستجلاب وخداع هؤلاء.
وإذا تأملنا رءوس البدع الذين بدءوا بالفتن على المسلمين، وخرجت عن فتنهم الفرق، نجدهم يقصدون الرعاع الهمج، الذين لا فقه لهم ولا عقل ولا رأي في الدين، ويستدرون عواطفهم بالشعارات.
ومسألة الشعارات ليست جديدة، إذ يظن بعض الناس أن الشعارات من الأمور المحدثة، وليس كذلك، فكل أهل الأهواء أصحاب شعارات، وكلهم يستهوون الناس بما يستميلون به عواطف العامة، ويثيرون الفتنة من خلال هؤلاء الهمج، فأول من فعل ذلك -كما هو معروف- ابن سبأ اليهودي ابن السوداء، فإنه عجز عن أن يدخل على الأمة من خلال علمائها ولا من خلال عقلائها ولا من خلال أمرائها، فدخل عليها من خلال السفهاء من حدثاء الأسنان ومن العوام والعجم الذين لم يكتمل فقههم في الدين، ومن الرعاع والهمج، فصار يستثير عواطفهم، ويتكلم بما يهمهم، ويدعي أنه يتكلم عن مظالمهم، وأنه مشفق على أحوالهم، وأنه ناصح لهم.
وهذا الصنف من الناس كل من رفع لهم هذه الشعارات تبعوه في كل زمان.
ثم لما ظهرت الخوارج والشيعة رفعت هذه الرايات؛ لتستميل وتستدر عواطف الرعاع والهمج بهذه الأساليب؛ بإثارة العواطف باسم الغيرة على الدين باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ثم جاءت بعدهم القدرية وفعلت ذلك، ثم جاءت بعدهم المعتزلة وفعلت ذلك، ولذلك نجد أن من أسباب وقوع الهمج والرعاع أن أهل الأهواء يتظاهرون أو يظهرون بالزهد والورع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحرص على مصالح الأمة، ولا بد أن يكون ذلك من أسباب استجلاب العوام والرعاع.
وأصدق مثال لذلك: رءوس المعتزلة واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد، فقد اشتهرا بالزهد والورع والحرص على مصالح الناس ودفع المظالم.
فمن هنا يرفع كل صاحب بدعة شعار بدعته على هذه الأسس، ثم من خلالها يدخل على هؤلاء الهمج الرعاع بتثبيت بدعته، سواء كانت اعتقادية أو قولية أو عملية، والغالب أنها تجتمع.
إذاً: فقول الشيخ صحيح، والواقع يشهد له أنه لم تجئ بدعة قط إلا من الهمج والرعاع، يعني: هم الذين يتبعونها، وإلا فقد يكون مخترع البدعة من الأذكياء العباقرة؛ لكن قصده أن البدعة لا تنتشر ولا تستفحل إلا من خلال انتشارها بين هذا الصنف الذين يميلون مع كل ريح، أتباع كل ناعق.
قوله: (فمن كان هكذا فلا دين له)، بمعنى أنه لا يصمد على دين، بل يتلون بحسب الأحوال، وفعلاً فإن الرعاع ليس لهم دين، قد يكون عندهم شيء من الصلاح والتقوى لكن ليس لهم قرار، ليس لهم اتباع؛ لأنهم مقلدة، فمن هنا تتقلب بهم الأهواء من حيث يشعرون ولا يشعرون، فيتلونون من لون إلى لون ومن فئة إلى فئة ومن فرقة إلى فرقة.
ولذلك إذا حدثت الفتن الكبار يكون للرعاع بسبب اتباعهم للناعقين قوة ضاغطة حتى على الراسخين في العلم والعقلاء والكبار وأهل الأمر والنهي، حيث يعجزون عن مقاومة اتجاه الرعاع؛ لأن أهل الأهواء يستغلون الرعاع، فمن هنا إذا حدثت الفتن قد تكون السنة في غربة بسبب أن الرعاع مع الناعقين، لا يتثبتون ولا يرجعون إلى أهل العلم، ولا إلى أهل المشورة والرأي، خاصة إذا وجدوا رايات وشعارات تحجبهم عن العلماء.
ثم قال بعد ذكر الآية: (وهم علماء السوء)، أي: الذين اختلفوا هم علماء السوء وأصحاب الطمع والبدع.