قال رحمه الله تعالى:[واعلم أن أهل العلم لم يزالوا يردون قول الجهمية حتى كان في خلافة بني فلان، تكلم الرويبضة في أمر العامة، وطعنوا على آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذوا بالقياس والرأي، وكفّروا من خالفهم، فدخل في قولهم الجاهل والمغفل والذي لا علم له حتى كفروا من حيث لا يعلمون، فهلكت الأمة من وجوه، وكفرت من وجوه، وتزندقت من وجوه، وضلت من وجوه، وتفرقت وابتدعت من وجوه إلا من ثبت على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره وأمر أصحابه، ولم يخطئ أحداً منهم ولم يجاوز أمرهم ووسعه ما وسعهم، ولم يرغب عن طريقتهم ومذهبهم، وعلم أنهم كانوا على الإسلام الصحيح والإيمان الصحيح فقلدهم دينه واستراح، وعلم أن الدين إنما هو بالتقليد، والتقليد لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم].
قوله:(واعلم أن أهل العلم لم يزالوا يردون قول الجهمية)، يشير بذلك إلى منهج وأصل وغاية من غايات الدين، عمل به السلف حتى صار من سماتهم ومن أصولهم ومناهجهم الكبرى، وهو الرد على المخالف، ونظراً لأن أشد المخالفين وأكثرهم فتنة وأعمهم بلوى هم الجهمية فذكرهم هنا بالاسم، ولأن السلف اجتمعت قواهم واحتشدت على الجهمية.
كثير من السلف قد لا يكون له كثير كلام في الأهواء والبدع والفرق، وكثير من السلف لم يتعرض للرد لكنهم فيما يتعلق بالجهمية أسهموا بذلك، حتى من لم يعرف عنه الاهتمام بهذه المواقف، لأن أصول الجهمية أصول لعامة أهل الأهواء الذين جاءوا بعدهم، والعجيب أن جميع الفرق التي فارقت أهل السنة والجماعة أخذت بأصل أو أكثر من أصول الجهمية، مما يدل على عموم البلوى بالجهمية، وأن السلف حينما احتشدت جهودهم ضد هذه الفرقة فذلك لأنهم عرفوا أصولها الفاسدة وتمويهاتها على الأمة، وعرفوا أيضاً مخاطر أصول الجهمية على الأمة، فالجهمية هم أشد الفرق على الأمة وأكثرها تمويهاً وتلبيساً على الناس.
ثم قال:(حتى كان في خلافة بني فلان تكلم الرويبضة في أمر العامة)، يظهر لي أن هذا لم يحدث إلا في عهد بني العباس وليس في أوله، إنما في القرن الثالث في عهد المأمون وما بعده، أما قبل ذلك فرغم ما حصل من ظهور أوائل الفرق الكلامية إلا أنه لم يحدث أن تكلم الرويبضة -وهو الإنسان التافه الحقير- باسم الدين وباسم الأمة، أي: رغم وجود الفرق في عهد بني أمية وأول دولة بني العباس إلا أن السلطة كانت قوية حازمة ضد الأهواء، وكانت أيدي السلاطين بأيدي العلماء ضد جميع الفرق، فلما كان في عهد المأمون توجه المأمون لتأثره بالجهمية والمعتزلة إلى التنفيس للفرق، وإتاحة الفرصة لها لتخرج أعناقها وترفع رايتها، بل إنه أيدها وعمل أعمالاً هي في سبيل الافتراق، فأذن بسب بعض الصحابة كـ معاوية رضي الله عنه علناً، بل أمر به، وأمر بإحداث بعض البدع في المساجد كبدعة الذكر الجماعي، ونصر الجهمية في القول بخلق القرآن، وأرغم الأمة عليها، ومن هنا تكلمت الرويبضة، وهو الرجل التافه الحقير، والذي يتمثل بكثير ممن انطووا تحت لواء الجهمية والمعتزلة من عشاق الشهرة وأهل الأهواء.
ثم قال:(وطعنوا على آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم) وهذا مما يدل على أنه قصد الجهمية والمعتزلة، فإن الفرق التي سبقت كان لها منهج منحرف وضال في نظرتها لآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنها لم تجرؤ على الطعن في النصوص، ولم يجرؤ على رد الأحاديث إلا المعتزلة والجهمية.
(وأخذوا بالقياس والرأي) يعني في أمور العقيدة وأصول الدين، لأنا نعرف أن القياس والرأي إذا كان في الاجتهاديات فهو جائز بالضوابط الشرعية، بل الأصل في العالم والمجتهد أنه يقيس مسألة على مسألة ترجع إلى دليل، وكذلك يبدي رأيه في الاستدلال والترجيح، فهذا ليس هو المقصود هنا، إنما المقصود بالقياس والرأي المذموم ما كان في أصول الدين والعقيدة، لأنها توقيفية غيبية لا يعلمها إلا الله عز وجل.