قال رحمه الله تعالى:[والكلام والخصومة والجدال والمراء محدث، يقدح الشك في القلب، وإن أصاب صاحبه الحق والسنة].
وهذه قاعدة عظيمة من القواعد المقررة في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم واتفق عليها السلف، وهي: أن الكلام والخصومة في الدين وما يستتبعهما من المراء والجدل كل ذلك حرام، وما حدث من المراء منذ نهاية القرن الأول أمر محدث لم يكن عليه سلف الأمة، وإنما أحدثته الفرق، ومع ذلك بقي الصحابة والتابعون والسلف وأئمة الدين يتفادون الوقوع في المراء والجدل إلا في حالات ضرورية يضطرون فيها لنصر الدين بالجدال بالتي هي أحسن، كما حدث من ابن عباس وعلي بن أبي طالب مع الخوارج، وكما حدث من بعض أئمة السلف كـ الأوزاعي والثوري وغيرهم مع القدرية والجهمية.
ثم بعد ذلك لما كثرت الفرق صارت للسلف بعض المواقف لجئوا فيها إلى الجدال لكن بدون مراء، فما كانوا يلجئون إلى المراء، وكان هذا مما يستفز الخصوم، كما حدث من الإمام أحمد رحمه الله، حيث كان لا يجادل بأكثر من إقامة الدليل، وإذا وجد أن خصمه يماري سكت، وكان سكوته مما يغضب عليه بعض الخلفاء والرءوس الذين حضروا المجادلة أو حضروا المناظرة؛ لأن السلف يرون أن القصد بالجدل هو إقامة الحجة، وما عدا ذلك إذا تبين أن الخصم يماري فيكرر القضية بأكثر مما يحتاج الناس، فهذا لا ينبغي أن يتمادى معه صاحب الحق.
إذاً: الجدال والمراء محدث؛ لأن مبنى الدين على التسليم، كما أن من ثمرات المراء أنه يقدح الشك في القلب، وذلك أن الدين مبناه على التسليم والتثبيت واليقين، فأي سؤال ينشأ ولو على سبيل الافتراض فإنه يحدث في النفس شيئاً، سواء لمن أنشأه أو لمن سمعه شاء الإنسان أم أبى، ولذلك نجد أن نصوص الشرع التي وردت في الرد على أهل الأهواء جاءت مختصرة لا تثير الشكوك، إنما تبني اليقين بالبدهيات الفطرية والعقلية، كما هو ظاهر من الردود التي ذكرها الله عز وجل في كتابه على الكفار والمشركين، فالبرهان العقلي الذي استدل به القرآن يتكون غالباً من كلمتين أو ثلاث، وهذا هو الذي قد يحتاجه من يجادل أهل الباطل، لكن إثارة الشكوك أو الافتراضات أو حتى التمادي في الإجابة على شكوك المشككين لا يستقيم على المنهج الحق ومنهج أهل السنة والجماعة.
ولذلك فإن عجوز نيسابور لما رأت الرازي مع تلاميذه بالعشرات وهم يكتبون ما يتلفظ به من الأوهام والخيالات وسفاسف الأمور؛ ومن إعجابهم به كانوا يحيطون به كإحاطة الناس بالزعماء والملوك والسلاطين، فلما رأتهم تعجبت وقالت لأحد تلاميذ الرازي: من هذا الرجل، أهو السلطان؟ قال: لا، قالت: أهو نائب السلطان؟ قال: لا، قالت: أهو القائد فلان؟ قال: لا قالت: إذاً فمن يكون؟ قال: هذا العالم فلان الذي يملك على وجود الله ألف دليل، قالت: لقد والله تعس وخسر وخاب، أفي الله شك؟ إن كان الأمر كما تقول، فإن في قلبه ألف شك.
{أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}[إبراهيم:١٠]، هذا هو مقتضى الفطرة، ولذلك فإن الشك سواء كان على سبيل الافتراض أو كان حقيقياً أو أحدثه السؤال أو أنشأه المراء والجدال، فإنه باب ضلالة وفتنة، وينبغي لطالب العلم ألا يعرض نفسه ولا غيره لأي نوع من أنواع الشك بقصده، أما إذا حدث من غير قصد، فينبغي أن يعالج الشك بأقصى درجات الكتمان، وألا يوسع دائرة الجواب على الشكوك في الدروس العامة والمنابر والمناظرات.