قال رحمه الله تعالى:[والمكاسب مطلقة ما بان لك صحته فهو مطلق إلا ما ظهر فساده، وإن كان فاسداً يأخذ من الفساد ممسكة نفسه، ولا تقول: أترك المكاسب وآخذ ما أعطوني، لم يفعل هذا الصحابة ولا العلماء إلى زماننا هذا، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كسب فيه بعض الدنية خير من الحاجة إلى الناس].
أيضاً هذه من الأصول الفقهية والقواعد في الأحكام، فإن الأصل في المكاسب والحرف والرواتب والمكافآت وكسب العيش وطلب الرزق والضرب في الأرض والتجارة، كلها الأصل فيها الحل ما لم يتبين فيها حرام أو مشتبه، فالحرام حرام والمشتبه مكروه.
قوله:(إلا ما ظهر فساده) يعني: أنه محرم أو مغصوب أو مشبوه أو نحو ذلك.
قال:(وإن كان فاسداً يأخذ من الفساد ممسكة نفسه) يعني: يأخذ ما تقتضيه الضرورة، فمثلاً الميتة لا شك أنها فاسدة وحرام، لكن إذا اضطر لها الإنسان بحيث لم يبق إلا أن يموت أو يأكل منها أكل للضرورة، وكذلك بقية المكاسب الحرام إذا وقعت في يد إنسان هالك إن لم يأكلها فله أن يأكل منها بقدر ما ينقذ حياته فقط، وهذا معنى قوله:(يأخذ من الفساد ممسكة نفسه) يعني: من المال الفاسد، وكذلك عبر عنها في نسخة ط وهي أصح:(يأخذ من المال الفاسد ما تقوم به نفسه عند الضرورة).
قوله:(ولا تقول أترك المكاسب وآخذ ما أعطوني) يعني: كما يفعل كثير من العباد والنساك الأوائل الذين اتكأت عليهم الصوفية فإنهم قعدوا عن كسب العيش وصاروا عالة على الناس ويأخذون ما يعطيهم الآخرون ويتركون المكاسب بدعوى أنهم يريدون أن يتفرغوا للعبادة، وهذا خلل، فإن خيار الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأخذ نصيبه من الدنيا، ويعطي ويتصدق ويعمل بكل الوسائل والأساليب المباحة في الحياة الدنيا، ثم كان خيار الصحابة من بعده الخلفاء الراشدين، وكانوا أصحاب مكاسب يطلبون العيش بأيديهم، يتاجرون ويرابحون ويعملون ولم يقعدوا، فكانوا في العبادة مثالاً يحتذى وفي طلب العيش مثالاً يحتذى، وفي التجارة كانوا مثالاً يحتذى.
فإذاً: هذا هو الأصل، ولذلك تجد أمثل الناس هم الذين يعملون ذلك، وما كان دون ذلك فهو دونه إلا لظروف تحدث لإنسان، كأن تكون الأمة بحاجة إليه في تخصص معين وهو مكفي في حياته لكنه لا يستجدي أحداً، إنما ييسر الله له رزقه بطرق مشروعة ولا يمد يده للآخرين.
أقول: إن الأمثل من أئمة الدين قديماً وحديثاً هم الذين لا يتركون المكاسب ويجلسون على عطايا الناس، ولم يفعل هذا الصحابة ولا العلماء إلى زماننا هذا كما قاله الشيخ.
(وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كسب فيه بعض الدنية) أي: مثل بعض الحرف التي يحتقرها الناس، على أن احتقارهم للحرف ليس مبنياً على أصل شرعي، ومع ذلك فكسب فيه بعض الدنية خير من الحاجة إلى الناس، وهذه قاعدة عظيمة.