للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الامتحان في الإسلام والسنة]

قال أبو محمد الحسن بن علي البربهاري رحمه الله تعالى: [والمحنة في الإسلام بدعة، وأما اليوم فيمتحن بالسنة لقوله: إن هذا العلم دين فانظروا ممن تأخذون دينكم، ولا تقبلوا الحديث إلا ممن تقبلون شهادته، فتنظر فإن كان صاحب سنة له معرفة صدوق كتبت عنه وإلا تركته].

هذه القاعدة أصل في الدين، وهو أن الأصل في المسلمين السلامة، والأصل فيهم الإسلام ما لم يظهر قرائن بيّنة على خلاف ذلك، ولذلك فإن امتحان الناس بسؤالهم عن عقائدهم بدون مبرر ولا موجب شرعي يعتبر من البدع، سواء كان ذلك الامتحان يقصد به كشف ما عند الشخص من قول أو اعتقاد، أو يقصد به التثبت، فإن التثبت غير مطلوب ما دامت السنة في الناس هي الظاهرة، والناس على الأصل، فالمسلم الذي يظهر الإسلام يشهد له بذلك في الجملة، ولا يجوز التفتيش عما وراء ذلك.

وسواء هذا في أمور جزئية أو كلية، بمعنى أنه لا يجوز أن نمتحن الناس أو نسألهم عن بعض قضايا العقيدة فضلاً عنها كلها، كما يفعل بعض الناس في سؤال بعض من يتعمقون عن بعض مسائل العقيدة كأن يقول: أين الله؟ أو يقول: ماذا تعتقد في الرؤية مثلاً، أو ماذا تعتقد في كلام الله عز وجل؟ فإن هذا فتنة للناس، وربما كان المسئول لا يعرف في ذلك شيئاً فيجيب بغير الحق وهو لا يدري، وهذا ما عليه غالب المسلمين أنهم لا يعرفون تفاصيل الاعتقاد، حتى في بعض الأصول القطعية المعلومة، وربما يعاند المسئول فيوقعه السائل في الإثم، فلذلك لا ينبغي أن يمتحن الناس في الأمور الباطنة أو الأمور غير الظاهرة.

أما إذا كان لذلك موجب كأن ظهرت في الشخص قرائن تدل على أنه يقول بالبدعة أو يعتقدها أو يفعلها، فلا مانع من سؤاله، أو كان الإنسان سيتعامل مع شخص تعاملاً يتعلق بالعقود، كتعامل تجاري دائم، أو تعامل علمي مستمر كأن تلقي العلم عنه أو يدرّسه، أو فيما يتعلق مثلاً بتزويجه أو نحو ذلك، فإذا توافرت قرائن معينة فلا مانع من السؤال.

أما قوله: (وأما اليوم فيمتحن بالسنة) فهو يقصد غلبة البدع في بعض البلاد وفي بعض الأزمان، فإذا كان الإنسان في بلد الغالب فيه البدعة فإنه يسأل؛ لأن القاعدة تنقلب وتنعكس سواء كانت بدعاً اعتقادية أو عملية أو هما معاً، والغالب أن البدع العملية والاعتقادية تتلازم خاصة في العصور المتأخرة، فما من أصحاب بدع اعتقادية إلا وعندهم بدع عملية، وما تنشأ البدع العملية أيضاً إلا عن بدع اعتقادية، فإذا كان الإنسان في موطن تكثر فيه البدع، أو هم الأصل فيه، فإنه يحتاج إلى السؤال؛ لأنه سيصلي خلف أئمتهم وسيتعامل معهم فيما يتعلق بدينه ويتلقى عنهم، وقد يضطر إلى أن يزكيهم أو يشهد لهم، فالسؤال مطلوب للتثبت من أهل السنة وتمييزهم عن أهل البدعة، لكن هذا ليس هو الغالب في المسلمين.

ثم قال: (إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم) هذا الحديث فيه ضعف كما تعلمون، ولكنها قاعدة سليمة صحيحة، بمعنى أن الإنسان إذا أراد أن يتلقى ويتعلم العقيدة والأحكام فينبغي أن يتأكد من سلامة من يتلقى عنهم.

إذا دخل الشخص بلداً يغلب عليها البدع، وأراد أن يصلي مع الناس في مسجد معين فالأصل السلامة ما لم يظهر له أن الإمام مبتدع، فالبلاد تختلف بيئتها، فمثلاً البلد التي يكثر فيها البدع تجد فيها قرى ومواطن هم أهل سنة، بل مساجد الحي الواحد تجد فيه مسجد سنة ومسجد أهل بدع، وهم يعرفون هذا ويعرفون هذا، فأنت إن ظهرت لك قرائن تدل على أنه من موطن بدع فلا حرج أن تسأل، وإلا فيبقى الأصل السلامة، ولا مانع أن يسأل الإنسان لكن لا يسأل الشخص نفسه، فأكثر الذين يأتونا الآن من بلاد الإسلام الأخرى يعرف بعضهم بعضاً، ويوجد منهم من أهل السنة والصالحين من نعرفهم بيننا، فيسأل من خلال الاسم ومن خلال الوصف والبلد فإذا غلب على موطنه وبيئته أنهم أهل بدع فالأولى أن يسأل ويتبين من أمره، وإذا بقي على الجهالة أو عرفت أن موطنه موطن سنة فالأولى ألا تسأل.

<<  <  ج: ص:  >  >>