للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[ذكر ما يقع به الشرك من الألفاظ]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب قول الله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:٢٢].

قال ابن عباس في الآية: الأنداد هو الشرك، أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول: والله وحياتِكِ يا فلانة، وحياتي، وتقول: لولا كليبةُ هذا لَأَتانا اللصوص، ولولا البط في الدار لأتانا اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان، لا تجعل فيها فلاناً، هذا كله به شرك، رواه ابن أبي حاتم.

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف بغير الله فقد كفر، أو أشرك) رواه الترمذي وحسنه وصححه الحاكم، وقال ابن مسعود: لأن أحلفَ بالله كاذباً أحب إليَّ من أن أحلف بغيره صادقاً.

وعن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان) رواه أبو داود بسند صحيح، وجاء عن إبراهيم النخعي أنه يكره أن يقول الرجل: أعوذ بالله وبك، ويُجوِّز أن يقول: بالله ثم بك، قال: ويقول: لولا الله ثم فلان، ولا يقول: لولا الله وفلان].

نلحظ أن ابن عباس رضي الله عنها فسر آية البقرة: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:٢٢] بأن المراد بها الألفاظ الشركية، وهذا التفسير ليس المراد به الألفاظ الشركية فقط، وإنما هذا من باب التفسير بالنوع، فالسلف رضوان الله عليهم كانوا يفسرون بعض الآيات بذكر نوعٍ من أنواع المفسر، ومثال ذلك قول الله عز وجل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:١٠٣] يقول بعض المفسرين في قوله: (بحبل الله): هو القرآن، وبعضهم قال: هو الإسلام، وبعضهم قال: هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعضهم قال: هو اتباع هذا الدين، وهكذا يفسرون في بعض الأحيان المعنى المجمل بذكر نوع من أنواعه، وهو يدل على غيره، فهذا يسمى التفسير بالمثال.

فالألفاظ الشركية التي أشار إليها ابن عباس رضي الله عنه هي جزءٌ من قوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:٢٢]، وهذا يدل على أن اللسان يقع منه الشرك كما يقع من الجوارح ومن القلب، وهذا فيه الرد على المرجئة الذين حصروا الشرك في القلب لحصرهم الإيمان والتوحيد في القلب فقط.

ونلحظ أن الأمثلة التي ذكرها ابن عباس رضي الله عنه داخلة في الأنواع الأربعة السابقة التي أشرنا إليها، فقوله: (والله وحياتِك يا فلان، وحياتي) داخل في الحلف بغير الله، وسيأتي له باب مستقل، وقوله: (لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار لأتانا اللصوص) يدخل في إضافة الأشياء إلى غير الله عز وجل.

فهو هنا أضاف النجاة من اللصوص إلى الكليبة، وهي سبب، وأضاف النجاة والابتعاد من اللصوص إلى البط، والبط سبب؛ لأنه إذا دخل اللصوص يرفع صوته ويصيح وينبه أهل الدار.

ولا يصح أن نطلق على هذه الألفاظ شركٌ مطلقٌ، بل لا بد من التفصيل، فإن كان صاحبها يريد بها السببية المجردة -وهي سبب في حقيقة- فإنها حينئذٍ لا تكون من الشرك، وأما إذا أراد الاعتماد على السبب وتعظيم هذا السبب وبيان أهميته ومكانته فهي داخلة في الشرك الأصغر.

إذاً: لا بد من التفصيل في مثل هذه المضافات، فإذا أضاف الإنسان شيئاً من الأشياء إلى غير الله عز وجل فإنه ينظر: هل هو سبب في حصول هذا الشيء أم ليس بسبب؟ فإن كان سبباً فإنه ينظر إلى قصد قائله فهل هو معظم لهذا السبب أم ليس بمعظم لهذا السبب، فإن كان ليس بمعظم لهذا السبب فلا بأس، وإن كان معظماً له فهو داخل في الشرك الأصغر، وإن كان ما أسند إليه ليس بسببٍ شرعاً ولا قدراً فهو داخل في الشرك الأصغر، وهو يدخل فيما سبق التنبيه عليه في باب الرقية والتبرك والتمائم ونحو ذلك.

وقوله: (وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت) داخل في التشريك بين الله وخلقه بلفظ الواو، والواجب أن يقول: (ما شاء الله ثم شئت) وهذه أيضاً لا يصح أن يطلق عليها أنها من الشرك الأصغر مطلقاً، إلا إذا أضيف إليها شيء من التعظيم لهذا المقرون بلفظ الجلالة، أما إذا لم يكن له مراد إلا مجرد الحكاية اللفظية فإنه لا يدخل في عموم الشرك الأصغر، وإنما يكون من الألفاظ المنهي عنها والمكروهة، ولا من الألفاظ المحرمة والداخلة في الشرك الأصغر.

فقول الرجل: (لولا الله وفلان) دالٌ على التشريك في اللفظ، يقول ابن عباس: (لا تجعل فيها فلاناً، هذا كله به شرك) وهذا الأثر المروي عن ابن عباس إسناده حسن إلى ابن عباس، وهو محتج

<<  <  ج: ص:  >  >>