للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الشرك في سب الدهر]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب من سب الدهر فقد آذى الله، وقول الله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:٢٤].

وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار) وفي رواية: (لا تسبوا الدهر؛ فإن الله هو الدهر)].

المقصود بالدهر: الزمان والأوقات والأيام والليالي، فسب الدهر لا يجوز، والسبب في ذلك أن الدهر ليس له من الأمر شيء، ولا يعمل شيئاً بذاته، وإنما الذي يفعل هو الله سبحانه وتعالى، وليس الدهر سبباً في تدبير شيء، فهذا أمر.

والأمر الثاني: أن الله عز وجل بين كونه سباً مذموماً، فقال: (وأنا الدهر أقلب الليل والنهار)، فمن سب الدهر وهو غير مالكٍ لشيء، فإن السب يعود إلى الله عز وجل المالك الذي دبر، فهو مذموم من ناحيتين.

الناحية الأولى: أن فيه نسبة لشيء من التصريف للدهر.

والناحية الثانية: أن هذا فيه سباً لله سبحانه وتعالى؛ لأن الدهر -في الحقيقة- ليس له أي تأثير، فيعود السب إلى المؤثر الذي سُبَّ الدَّهرُ من أجل تأثيره.

وسب الدهر داخل في نوعين من أنواع الشرك: النوع الأول: التشريك بين الله وخلقه، ووجه التشريك في سب الدهر أن من سب الدهر فلا يمكن أن يسبه اعتباطاً، وإنما يسبه لأنه يعتقد أن له تأثيراً في شيء من الحوادث التي آذته والتي أزعجته.

النوع الثاني: عدم تعظيم الله سبحانه وتعالى؛ لأن سب الدهر هو سبٌ لله سبحانه وتعالى، يقول الله عز وجل: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:٢٤] وهذا فيه نفي لوجود الله عز وجل وتأثيره، ولهذا كانوا يقولون: ما هي إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع وما يهلكنا إلا الدهر، ولهذا كان يقول شاعرهم: أموتٌ ثم بعثٌ ثم حشرٌ حديث خرافةٍ يا أم عمرٍو يعني: لا يمكن أن يحصل شيءٌ من هذه الأشياء، ولهذا سموا دَهرية، قال تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:٢٤] فذمهم الله سبحانه وتعالى.

وجاء في الحديث الصحيح المروي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر)، فلا يؤخذ من قوله: (وأنا الدهر) ومن قوله: (فإن الله هو الدهر) أن الله عز وجل اسمه الدهر، فليس من أسماء الله سبحانه وتعالى الدهر، ومن ظن أن من أسماء الله الدهر فقد أخطأ.

وممن استدل بهذا الحديث على أن من أسماء الله الدهر ابن حزم الأندلسي رحمه الله.

وقد أخطأ في ذلك، والسبب يعود إلى أمرين.

الأمر الأول: أن الدهر ليس فيه مدح وليس فيه ثناء، وإنما هو الزمان والوقت، والزمان والوقت ليس فيه مدحٌ ولا ثناء، والله عز وجل وصف أسماءه بأنها حسنى، إذ يقول عز وجل: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:١٨٠]، والحسنى على وزن (فعلى) يعني: التي بلغت الغاية في الحسن والجمال والكمال، والدهر ليس كذلك.

والأمر الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم بين معنى قوله: (وأنا الدهر)، فإنه قال: (وأنا الدهر أقلب الليل والنهار)، فالذي يأخذ من قوله: (وأنا الدهر) أن اسم الله هو الدهر يلزمه أن يعرب (وأنا الدهر) على أنها جملة تامة ليس لها أي ارتباط بالجملة التي تليها، وهي قوله: (أقلب الليل والنهار)، وهذا فهمٌ خاطئ للنص، فإن قوله: (أقلب) خبر ثانٍ، والمعنى: أنا المدبر لأمر الدهر، وليس المقصود أن اسمه الدهر.

<<  <  ج: ص:  >  >>