للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[التبرك وأقسامه وأحكامه]

والنوع الثالث من أنواع الشرك الأصغر هو: التبرك، والمقصود بالتبرك: طلب البركة، وطلب البركة منه شيء مشروع، فإن الشرع قد كشف عن مواطن وأماكن وأشخاص وأقوام مباركين، فماء زمزم مبارك، وبلاد الشام مباركة، والحرم مبارك، وهناك أمور كثيرة مباركة بين النبي صلى الله عليه وسلم أن فيها بركة، وبين كيفية استعمال البركة الموجودة فيها.

وهناك نوع ثان من التبرك، وهو التبرك المذموم، وهو أن يتبرك الإنسان بأحجار أو بأشجار، أو يتبرك بأشخاص، أو يتبرك بفضلات إنسان، كالتبرك بما بقي من مائه أو ما بقي من أكله أو لبسه أو نحو ذلك، وكل ذلك من الشرك الأصغر.

إذاً: يمكن تقسيم التبرك إلى قسمين: تبرك محمود، وتبرك مذموم فالتبرك المحمود: يشترط فيه عدة شروط.

الشرط الأول: أن يدل دليل صحيح صريح على أن هذا الأمر فيه بركة.

الشرط الثاني: أن يكون التبرك به بنفس الطريقة المشروعة التي شرعها الرسول صلى الله عليه وسلم، فماء زمزم يكون التبرك به بشربه والتضلع منه، فلو أن إنساناً أخذ ماء زمزم ليداوي به الجروح فإنا نقول له: أخطأت الطريق هنا.

وبلاد الشام مباركة، والحرم مبارك، فلو أن إنساناً جاء إلى الحرم وقال: هذا مبارك، وبدأ يتمسح بأشجاره وأحجاره ويأكل من ترابه ويعمل نحو هذه الأعمال التي لم ترد في الشرع، فإنا نقول له: قد أخطأت، فإن الحرم مبارك، والبركة التي تكون فيه هي بكثرة الطواف بالطريقة المشروعة التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم.

والنوع الثاني: التبرك الممنوع، وينقسم إلى قسمين: القسم الأول: ادعاء البركة في أماكن لم يدل الدليل الشرعي على أنها مباركة، فبعض الناس يأتي إلى قبر من القبور وينصب عليه قبةً كبيرةً ويجعل له مدخلاً ومخرجاً، ويجلس فيه ويقول: هذه روضة من رياض الجنة، وهذا المكان مبارك، فهذا ابتدع بدعة من عنده، فإن أماكن القبور لم يدل دليل صحيح صريح على أنها أماكن مباركة، فلا بد من أن يدل دليل صحيح على أن هذا الأمر مبارك؛ لأن البركة أمر موجود في العين المباركة لا يمكن أن يكشف عنه إلا من خلقه، وهو الله سبحانه وتعالى، وذلك إما بكلام منه في القرآن أو بكلام من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن كلام النبي صلى الله عليه وسلم وحي، أما ادعاء البركة بدون دليل فهو من الشرك.

القسم الثاني: التبرك ببعض الأماكن المباركة بغير الطريقة الشرعية، مثل الذي يأتي ويتمسح بمقام إبراهيم، أو يأتي ويتمسح بسواري الحرم، أو يذهب إلى بيت المقدس ويتمسح به ونحو ذلك، مع أن هذه أماكن مباركة دل الدليل على أنها مباركة، لكنه تبرك بها بشكل غير مشروع فهذا من الشرك الأصغر.

والتبرك قد يكون شركاً أكبر إذا أوصلك اعتقاد البركة في الشيء إلى عبادته، فالذي جعل كفار قريش يعبدون مناة واللات والعزى ونحو ذلك هو التبرك، واللات كان رجلاً صالحاً يلت السويق للحجاج ويطعمهم ويسقيهم، وكان رجلاً فاضلاً، فلما مات عكفوا على قبره فتبركوا به، ووصل التبرك به إلى درجة أنهم أصبحوا يعبدونه من دون الله، ويظنون أنه يرفع عبادتهم إلى الله سبحانه وتعالى، فوقعوا في الشرك، وهذا هو -أيضاً- فعل قوم نوح، كما قال الله عز وجل: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:٢٣]، فهذه أسماء لرجال صالحين كانوا في قوم نوح ماتوا في شهر واحد، فصوروا على صورهم على هيئة تماثيل، ثم بعد أن نسي العلم وزال عبدوا من دون الله سبحانه وتعالى.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب: من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما.

وقول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم:١٩ - ٢٢].

جاء الشيخ بهذه الآية مع أنها في شرك المشركين المخرج من الملة؛ لأن السبب الذي جعلهم يعبدونها من دون الله هو التبرك، فالتبرك قد يصل إلى الشرك الأكبر إذا أوصل صاحبه إلى عبادة المبارك، وقد يصل إلى الشرك الأصغر إذا كان وسيلة، كما بينا في الفرق بين الشرك الأكبر والشرك الأصغر.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم يقال لها: ذات أنواط].

يعني: يعلقون أسلحتهم بها لأجل البركة.

قال: [فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الله أكبر! إنها السنن، قلتم -والذي نفسي بيده- كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف:١٣٨]، لتركبن سنن من كان قبلكم) رواه الترمذي وصححه].

فهؤلاء قوم من المشركين كانوا يتبركون بشجرة ينوطون به

<<  <  ج: ص:  >  >>