بِأَسْرِهِمْ زَعَمُوا أَنَّ السَّلَفَ بِأَسْرِهِمْ تَآمَرُوا، وَغَصَبُوا الْحَقَّ أَهْلَهُ، وَعَدَلُوا عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ الْمُحِيطِ بِجَمِيعِ النُّصُوصِ الْمُحِيطَةِ بِالْأَحْكَامِ إلَى الْقِيَامَةِ، فَتَوَرَّطُوا فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ مِنْ الْخِلَافِ.
وَهَذَا اعْتِرَاضُ مَنْ عَجَزَ عَنْ إنْكَارِ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى الرَّأْيِ فَفَسَقَ، وَضَلَّ، وَنَسَبَهُمْ إلَى الضَّلَالِ، وَيَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِ مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأُمَّةَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى الْخَطَأِ، وَمَا دَلَّ عَلَى مَنْصِبِ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - مِنْ ثَنَاءِ الْقُرْآنِ، وَالْأَخْبَارِ عَلَيْهِمْ كَمَا نَذْكُرُ فِي كِتَابِ الْإِمَامَةِ، وَكَيْفَ يَعْتَقِدُ الْعَاقِلُ الْقَدْحَ فِيمَنْ أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِ مُبْتَدِعٍ مِثْلِ النَّظَّامِ؟
الِاعْتِرَاضُ الثَّانِي: قَوْلُهُمْ: لَا يَصِحُّ الرَّأْيُ، وَالْقِيَاسُ إلَّا مِنْ بَعْضِهِمْ، وَكَذَلِكَ السُّكُوتُ لَا يَصِحُّ إلَّا مِنْ بَعْضِهِمْ، فَإِنَّ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يَخُضْ فِي الْقِيَاسِ، وَفِيهِمْ مَنْ لَمْ يَسْكُتْ عَنْ الِاعْتِرَاضِ قَالَ النَّظَّامُ فِيمَا حَكَاهُ الْجَاحِظُ عَنْهُ: إنَّهُ لَمْ يَخُضْ فِي الْقِيَاسِ إلَّا نَفَرٌ يَسِيرٌ مِنْ قُدَمَائِهِمْ كَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَنَفَرٍ يَسِيرٍ مِنْ أَحْدَاثِهِمْ كَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، ثُمَّ شَرَعَ فِي ثَلْبِ الْعَبَادِلَةِ، وَقَالَ: كَأَنَّهُمْ كَانُوا أَعْرَفَ بِأَحْوَالِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ آبَائِهِمْ، وَأَثْنَى عَلَى الْعَبَّاسِ، وَالزُّبَيْرِ إذْ تَرَكَا الْقَوْلَ بِالرَّأْيِ، وَلَمْ يَشْرَعَا.
، وَقَالَ الدَّاوُدِيَّةُ: لَا نُسَلِّمُ سُكُوتَ جَمِيعِهِمْ عَنْ إنْكَارِ الرَّأْيِ، وَالتَّخْطِئَةِ فِيهِ، إذْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي، وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إذَا قُلْت فِي كِتَابِ اللَّهِ بِرَأْيِي، وَقَالَ: أَقُولُ فِي الْكَلَالَةِ بِرَأْيِي فَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي، وَمِنْ الشَّيْطَانِ، وَقَالَ عَلِيٌّ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي قِصَّةِ الْجَنِينِ: إنْ اجْتَهَدُوا فَقَدْ أَخْطَئُوا، وَإِنْ لَمْ يَجْتَهِدُوا فَقَدْ غَشُّوا.، وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أَخْبِرُوا زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنْ لَمْ يَتُبْ لِفَتْوَاهُ بِالرَّأْيِ فِي مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ.، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ فِي الْمَالِ النِّصْفَ، وَالثُّلُثَيْنِ، وَقَالَ: أَلَا يَتَّقِي اللَّهَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَجْعَلُ ابْنَ الِابْنِ ابْنًا، وَلَا يَجْعَلُ أَبَا الْأَبِ أَبًا، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي مَسْأَلَةِ الْمُفَوَّضَةِ: إنْ يَكُ خَطَأً فَمِنِّي، وَمِنْ الشَّيْطَانِ، وَقَالَ عُمَرُ: إيَّاكُمْ، وَأَصْحَابَ الرَّأْيِ فَإِنَّهُمْ أَعْدَاءُ السُّنَنِ أَعْيَتْهُمْ الْأَحَادِيثُ أَنْ يَحْفَظُوهَا فَقَالُوا بِالرَّأْيِ فَضَلُّوا، وَأَضَلُّوا، وَقَالَ عَلِيٌّ، وَعُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ الْمَسْحُ عَلَى بَاطِنِ الْخُفِّ أَوْلَى مِنْ ظَاهِرِهِ، وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اتَّهِمُوا الرَّأْيَ عَلَى الدِّينِ فَإِنَّ الرَّأْيَ مِنَّا تَكَلُّفٌ، وَظَنٌّ، وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مَنْ الْحَقِّ شَيْئًا، وَقَالَ أَيْضًا: إنَّ قَوْمًا يُفْتُونَ بِآرَائِهِمْ، وَلَوْ نَزَلَ الْقُرْآنَ لَنَزَلَ بِخِلَافِ مَا يُفْتُونَ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: قُرَّاؤُكُمْ وَصُلَحَاؤُكُمْ يَذْهَبُونَ، وَيَتَّخِذُ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا يَقِيسُونَ مَا لَمْ يَكُنْ بِمَا كَانَ، وَقَالَ أَيْضًا: إنْ حَكَمْتُمْ فِي دِينِكُمْ بِالرَّأْيِ أَحْلَلْتُمْ كَثِيرًا مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ، وَحَرَّمْتُمْ كَثِيرًا مِمَّا أَحَلَّهُ اللَّهُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْكُمَ فِي دِينِهِ بِرَأْيِهِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاك اللَّهُ} [النساء: ١٠٥] ، وَلَمْ يَقُلْ " بِمَا رَأَيْت "، وَقَالَ: إيَّاكُمْ، وَالْمَقَايِيسَ فَمَا عُبِدَتْ الشَّمْسُ إلَّا بِالْمَقَايِيسِ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: ذَرُونِي مِنْ أَرَأَيْتَ وَأَرْأَيْتَ.
وَكَذَلِكَ أَنْكَرَ التَّابِعُونَ الْقِيَاسَ قَالَ الشَّعْبِيُّ: مَا أَخْبَرُوك عَنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ فَاقْبَلْهُ، وَمَا أَخْبَرُوك عَنْ رَأْيِهِمْ فَأَلْقِهِ فِي الْحُشِّ إنَّ السَّنَةَ لَمْ تُوضَعْ بِالْمَقَايِيسِ.، وَقَالَ مَسْرُوقُ بْنُ الْأَجْدَعِ: لَا أَقِيسُ شَيْئًا بِشَيْءٍ أَخَافُ أَنْ تَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا.
وَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّا بَيَّنَّا بِالْقَوَاطِعِ مِنْ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ الِاجْتِهَادَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute