للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَالْقَوْلَ بِالرَّأْيِ، وَالسُّكُوتَ عَنْ الْقَائِلِينَ بِهِ، وَثَبَتَ ذَلِكَ بِالتَّوَاتُرِ فِي وَقَائِعَ مَشْهُورَةٍ، كَمِيرَاثِ الْجَدِّ، وَالْإِخْوَةِ، وَتَعْيِينِ الْإِمَامِ بِالْبَيْعَةِ، وَجَمْعِ الْمُصْحَفِ، وَالْعَهْدِ إلَى عُمَرَ بِالْخِلَافَةِ، وَمَا لَمْ يَتَوَاتَرْ كَذَلِكَ فَقَدْ صَحَّ مِنْ آحَادِ الْوَقَائِعِ بِرِوَايَاتٍ صَحِيحَةٍ لَا يُنْكِرُهَا أَحَدٌ مِنْ الْأُمَّةِ مَا أَوْرَثَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا بِقَوْلِهِمْ بِالرَّأْيِ، وَعُرِفَ ذَلِكَ ضَرُورَةً كَمَا عُرِفَ سَخَاءُ حَاتِمٍ، وَشَجَاعَةُ عَلِيٍّ فَجَاوَزَ الْأَمْرُ حَدًّا يُمْكِنُ التَّشَكُّكُ فِي حُكْمِهِمْ بِالِاجْتِهَادِ، وَمَا نَقَلُوهُ بِخِلَافِهِ فَأَكْثَرُهَا مَقَاطِيعُ، وَمَرْوِيَّةٌ عَنْ غَيْرِ ثَبْتٍ، وَهِيَ بِعَيْنِهَا مُعَارَضَةٌ بِرِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ عَنْ صَاحِبِهَا بِنَقِيضِهِ فَكَيْفَ يُتْرَكُ الْمَعْلُومُ ضَرُورَةً بِمَا لَيْسَ مِثْلَهُ؟ وَلَوْ تَسَاوَتْ فِي الصِّحَّةِ لَوَجَبَ اطِّرَاحُ جَمِيعِهَا، وَالرُّجُوعُ إلَى مَا تَوَاتَرَ مِنْ مُشَاوَرَةِ الصَّحَابَةِ وَاجْتِهَادِهِمْ.

الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ، وَتَوَاتَرَتْ أَيْضًا لَوَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَهَا، وَبَيْنَ الْمَشْهُورِ مِنْ اجْتِهَادَاتِهِمْ.

فَيُحْمَلُ مَا أَنْكَرُوهُ عَلَى الرَّأْيِ الْمُخَالِفِ لِلنَّصِّ أَوْ الرَّأْيِ الصَّادِرِ عَنْ الْجَهْلِ الَّذِي يَصْدُرُ مِمَّنْ لَيْسَ أَهْلًا لِلِاجْتِهَادِ أَوْ وَضْعُ الرَّأْيِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، وَالرَّأْيُ الْفَاسِدُ الَّذِي لَا يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ، وَيَرْجِعُ إلَى مَحْضِ الِاسْتِحْسَانِ، وَوَضْعِ الشَّرْعِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ نَسْجٍ عَلَى مِنْوَالٍ سَابِقٍ، وَفِي أَلْفَاظِ رِوَايَتِهِمْ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ إذْ قَالَ: اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا، وَقَالَ: لَوْ قَالُوا بِالرَّأْيِ لَحَرَّمُوا الْحَلَالَ، وَأَحَلُّوا الْحَرَامَ. فَإِذًا الْقَائِلُونَ بِالْقِيَاسِ مُقِرُّونَ بِإِبْطَالِ أَنْوَاعٍ مَنْ الرَّأْيِ، وَالْقِيَاسِ، وَالْمُنْكِرُونَ لِلْقِيَاسِ لَا يُقِرُّونَ بِصِحَّةِ شَيْءٍ مِنْهُ أَصْلًا، وَنَحْنُ نُقِرُّ بِفَسَادِ أَنْوَاعٍ مِنْ الرَّأْيِ، وَالْقِيَاسِ كَقِيَاسِ أَصْحَابِ الظَّاهِرِ، إذْ قَالُوا: الْأُصُولُ لَا تُثْبِتُ قِيَاسًا فَلْتَكُنْ الْفُرُوعُ كَذَلِكَ

وَلَا تَثْبُتُ الْأُصُولُ بِالظَّنِّ فَكَذَلِكَ الْفُرُوعُ، وَقَالُوا لَوْ كَانَ فِي الشَّرِيعَةِ عِلَّةٌ لَكَانَتْ كَالْعِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ فَقَاسُوا الشَّيْءَ بِمَا لَا يُشْبِهُهُ. فَإِذًا إنْ بَطَلَ كُلُّ قِيَاسٍ فَلْيَبْطُلْ قِيَاسُهُمْ وَرَأْيُهُمْ فِي إبْطَالِ الْقِيَاسِ أَيْضًا، وَذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ الْمَذْهَبَيْنِ.

الِاعْتِرَاضُ الثَّالِثُ: أَنَّ دَلِيلَ الْإِجْمَاعِ إنَّمَا تَمَّ بِسُكُوتِ الْبَاقِينَ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ بَاطِلًا لَأَنْكَرُوهُ. فَنَقُولُ: لَعَلَّهُمْ سَكَتُوا عَلَى سَبِيلِ الْمُجَامَلَةِ، وَالْمُصَالَحَةِ خِيفَةً مِنْ ثَوَرَانِ فِتْنَةِ النِّزَاعِ أَوْ سَكَتُوا عَنْ إظْهَارِ الدَّلِيلِ لِخَفَائِهِ.

وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مَسَائِلَ الْأُصُولِ فِيهَا قَوَاطِعُ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِي صِيغَةِ الْأَمْرِ وَصِيغَةِ الْعُمُومِ، وَالْمَفْهُومِ، وَاسْتِصْحَابِ الْحَالِ، وَأَفْعَالِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَلْ فِي أَصْلِ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَأَصْلِ الْقِيَاسِ، وَأَصْلِ الْإِجْمَاعِ، وَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَدِلَّةٌ قَاطِعَةٌ عِنْدَكُمْ فِي النَّفْيِ، وَالْإِثْبَاتِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ التَّأْثِيمُ، وَالتَّفْسِيقُ فِيهَا

، وَالْجَوَابُ: أَنَّ حَمْلَ سُكُوتِهِمْ عَلَى الْمُجَامَلَةِ، وَالْمُصَالَحَةِ، وَاتِّقَاءِ الْفِتْنَةِ مُحَالٌ؛ لِأَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الْمَسَائِلِ، وَتَنَاظَرُوا، وَتَحَاجُّوا، وَلَمْ يَتَجَامَلُوا، ثُمَّ افْتَرَقَتْ بِهِمْ الْمَجَالِسُ عَنْ اجْتِهَادَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَلَمْ يُنْكِرْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ بَالِغًا مَبْلَغًا قَطْعِيًّا لَبَادَرُوا إلَى التَّأْثِيمِ، وَالتَّفْسِيقِ كَمَا فَعَلُوا بِالْخَوَارِجِ، وَالرَّوَافِضِ، وَالْقَدَرِيَّةِ، وَكُلُّ مَنْ عُرِفَ بِقَاطِعِ فَسَادِ مَذْهَبِهِمْ.

وَأَمَّا سُكُوتُهُمْ لِخَفَاءِ الدَّلِيلِ فَمُحَالٌ، فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ لِغَيْرِهِ: لَسْتَ شَارِعًا، وَلَا مَأْذُونًا مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ فَلِمَ تَضَعُ أَحْكَامَ اللَّهِ بِرَأْيِك، لَيْسَ كَلَامًا خَفِيًّا تَعْجِزُ عَلَى دَرْكِهِ الْأَفْهَامُ، وَكُلُّ مَنْ قَاسَ بِغَيْرِ إذْنٍ فَقَدْ شَرَّعَ. فَلَوْلَا عِلْمُهُمْ حَقِيقَةً بِالْإِذْنِ لَكَانُوا يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يُسَامِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَضْعِ الشَّرْعِ، وَاخْتِرَاعِ الْأَحْكَامِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ مَسَائِلِ الْأُصُولِ فَلَيْسَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ خِلَافٌ فِي صِحَّةِ الْقِيَاسِ، وَلَا فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَلَا فِي الْإِجْمَاعِ بَلْ أَجْمَعُوا عَلَيْهِ

<<  <   >  >>