بِخِلَافِهِ فَلَا يُنْكِرُ وُجُوبَ قَبُولِ هَذَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ، فَإِنَّهُ إذَا قَالَ: إذَا ظَنَنْتُمْ أَنَّ زَيْدًا فِي الدَّارِ فَاعْلَمُوا أَنَّ عَمْرًا فِي الدَّارِ، وَاعْلَمُوا أَنِّي حَرَّمْت الرِّبَا فِي الْبُرِّ، لَكِنَّا نَقْطَعُ بِتَحْرِيمِ الْبُرِّ، وَكَوْنُ عَمْرٍو فِي الدَّارِ مَهْمَا ظَنَنَّا أَنَّ زَيْدًا فِي الدَّارِ، فَإِنَّ هَذَا يَرْجِعُ إلَى الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ، وَلَكِنْ مِنْ أَيْنَ فَهِمَ الصَّحَابَةُ هَذَا، وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ مُؤْنَةٌ كُفِينَاهَا، فَإِنَّهُمْ مَهْمَا أَجْمَعُوا عَلَى الْقِيَاسِ فَقَدْ ثَبَتَ بِالْقَوَاطِعِ أَنَّ الْأُمَّةَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى الْخَطَأِ، بَلْ لَوْ وَضَعُوا الْقِيَاسَ، وَاخْتَرَعُوا اسْتِصْوَابًا بِرَأْيِهِمْ، وَمِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ لَكَانَ ذَلِكَ حَقًّا وَاجِبَ الِاتِّبَاعِ، فَلَا يَجْمَعُ اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى الْخَطَأِ فَلَا حَاجَةَ بِنَا إلَى الْبَحْثِ عَنْ مُسْتَنِدِهِمْ.
الثَّانِي: هُوَ أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ عَنْ مُسْتَنَدَاتٍ كَثِيرَةٍ خَارِجَةٍ عَنْ الْحَصْرِ، وَعَنْ دَلَالَاتٍ، وَقَرَائِنِ أَحْوَالٍ، وَتَكْرِيرَاتٍ، وَتَنْبِيهَاتٍ تُفِيدُ عِلْمًا ضَرُورِيًّا بِالتَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ وَرَبْطِ الْحُكْمِ بِمَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ كَوْنُهُ مَنَاطًا لِلْحُكْمِ، لَكِنْ انْقَسَمَتْ تِلْكَ الْمُسْتَنَدَاتُ إلَى مَا انْدَرَسَ فَلَمْ يُنْقَلْ اكْتِفَاءٌ بِمَا عَلِمَتْهُ الْأُمَّةُ ضَرُورَةً، وَإِلَى مَا نُقِلَ، وَلَكِنْ لَمْ يَبْقَ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ إلَّا نَقْلُ الْآحَادِ، وَلَمْ يَبْقَ عَلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ، وَلَا يُورِثُ الْعِلْمَ، وَإِلَى مَا تَوَاتَرَ، وَلَكِنْ آحَادُ لَفْظِهَا يَتَطَرَّقُ الِاحْتِمَالُ، وَالتَّأْوِيلُ إلَيْهِ فَلَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِآحَادِهَا، وَإِلَى مَا هِيَ قَرَائِنُ أَحْوَالٍ يَعْسُرُ وَصْفُهَا، وَنَقْلُهَا فَلَمْ تُنْقَلْ إلَيْنَا فَكُفِينَا مُؤْنَةَ الْبَحْثِ عَنْ الْمُسْتَنَدِ لِمَا عَلِمْنَاهُ عَلَى التَّوَاتُرِ مِنْ إجْمَاعِهِمْ.
وَنَحْنُ مَعَ هَذَا نُشِيعُ الْقَوْلَ فِي شَرْحِ مُسْتَنَدَاتِ الصَّحَابَةِ، وَالْأَلْفَاظِ الَّتِي هِيَ مَدَارِكُ تَنْبِيهَاتِهِمْ لِلتَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ، وَذَلِكَ مِنْ الْقُرْآنِ قَوْله تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: ٢] إذْ مَعْنَى الِاعْتِبَارِ الْعُبُورُ مِنْ الشَّيْءِ إلَى نَظِيرِهِ إذَا شَارَكَهُ فِي الْمَعْنَى، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هَلَّا اعْتَبَرُوا بِالْأَصَابِعِ وقَوْله تَعَالَى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: ٨٣] ، وَقَوْلُهُ: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: ٣٨] ، وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ مَسْأَلَةُ الْجَدِّ، وَالْإِخْوَةِ، وَمَسْأَلَةُ الْحَرَامِ إذَا لَمْ يَكُنِ الِاقْتِبَاسُ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي فِي الْكِتَابِ.
، وَقَدْ تَمَسَّكَ الْقَائِلُونَ بِالْقِيَاسِ بِهَذِهِ الْآيَاتِ، وَلَيْسَتْ مَرْضِيَّةً؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُجَرَّدِهَا نُصُوصًا صَرِيحَةً إنْ لَمْ تَنْضَمَّ إلَيْهَا قَرَائِنُ، وَمِنْ ذَلِكَ «قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِمُعَاذٍ: بِمَ تَحْكُمُ قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يَرْضَاهُ رَسُولُ اللَّهِ» .
وَهَذَا حَدِيثٌ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ، وَلَمْ يُظْهِرْ أَحَدٌ فِيهِ طَعْنًا، وَإِنْكَارًا، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَقْدَحُ فِيهِ كَوْنُهُ مُرْسَلًا بَلْ لَا يَجِبُ الْبَحْثُ عَنْ إسْنَادِهِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» وَ «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا» وَ «لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ» ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا عَلِمَتْ بِهِ الْأُمَّةُ كَافَّةً، إلَّا أَنَّهُ نَصٌّ فِي أَصْلِ الِاجْتِهَادِ، وَلَعَلَّهُ فِي تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ، وَتَعْيِينِ الْمَصْلَحَةِ فِيمَا عُلِّقَ أَصْلُهُ بِالْمَصْلَحَةِ فَلَا يَتَنَاوَلُ الْقِيَاسَ إلَّا بِعُمُومِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ لِعُمَرَ حِين تَرَدَّدَ فِي قُبْلَةِ الصَّائِمِ: «أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ أَكَانَ عَلَيْكَ مِنْ جُنَاحٍ؟ فَقَالَ: لَا فَقَالَ: فَلِمَ إذًا؟» فَشَبَّهَ مُقَدِّمَةَ الْوِقَاعِ بِمُقَدِّمَةِ الشُّرْبِ، لَكِنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ إلَّا بِقَرِينَةٍ إذْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ نَقْضًا لِقِيَاسِهِ حَيْثُ أَلْحَقَ مُقَدِّمَةَ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ، فَقَالَ: إنْ كُنْت تَقِيسُ غَيْرَ الْمَنْصُوصِ عَلَى الْمَنْصُوصِ؛ لِأَنَّهُ مُقَدِّمَتُهُ فَأَلْحِقْ الْمَضْمَضَةَ بِالشُّرْبِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِلْخَثْعَمِيَّةِ: «أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ أَكَانَ يَنْفَعُهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ»
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute