تَعَالَى قَالَتَا أَتَيْنَا طائعين فقد علمنَا بِالضَّرُورَةِ والمشاهدة أَن القَوْل فِي اللُّغَة الَّتِي نزل بهَا الْقُرْآن إِنَّمَا هُوَ دفع آلَات الْكَلَام من أنابيب الصَّدْر وَالْحلق والحنك وَاللِّسَان والشفتين والأضراس بهواءٍ يصل إِلَى أذن السَّامع فيفهم بِهِ مرادات الْقَائِل فَإذْ لَا شكّ فِي هَذَا فَكل من لَا لِسَان لَهُ وَلَا شفتين وَلَا أضراس وَلَا حنك وَلَا حلق فَلَا يكون مِنْهُ القَوْل الْمَعْهُود منا هَذَا مِمَّا لَا يشك فِيهِ ذُو عقل فَإذْ هَذَا هَكَذَا كَمَا قُلْنَا بالعيان فَكل قَول ورد بِهِ نَص وَلَفظ مخبر بِهِ عَمَّن لَيست هَذِه صفته فَإِنَّهُ لَيْسَ هُوَ القَوْل الْمَعْهُود عندنَا لكنه معنى آخر فَإذْ هَذَا كَمَا ذكرنَا فبالضرورة قد صَحَّ أَن معنى قَوْله تَعَالَى {قَالَتَا أَتَيْنَا طائعين} إِنَّمَا هُوَ الجري على نَفاذ حكمه عز وَجل فيهمَا وتصريفه لَهَا وَأما عرضه تَعَالَى الْأَمَانَة على السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال وإباية كل وَاحِد مِنْهَا فلسنا نعلم نَحن وَلَا أحد من النَّاس كَيْفيَّة ذَلِك وَهَذَا نَص قَوْله تَعَالَى {مَا أشهدتهم خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَلَا خلق أنفسهم} فَمن تكلّف أَو كلف غَيره معرفَة ابْتِدَاء الْخلق وَأَن لَهُ مبدئاً لَا يُشبههُ الْبَتَّةَ فَأَرَادَ معرفَة كَيفَ كَانَ فقد دخل فِي قَوْله تَعَالَى {وتقولون بأفواهكم مَا لَيْسَ لكم بِهِ علم وتحسبونه هيناً وَهُوَ عِنْد الله عَظِيم} إِلَّا أننا نوقن أَنه تَعَالَى لم يعرض على السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال الْأَمَانَة إِلَّا وَقد جعل فِيهَا تمييزاً لما عرض علييها وَقُوَّة تفهم بهَا الْأَمَانَة فِيمَا عرض عَلَيْهَا فَلَمَّا أبتها وأشفقت مِنْهَا سلبها ذَلِك التَّمْيِيز وَتلك الْقُوَّة وَأسْقط عَنْهَا تَكْلِيف الْأَمَانَة هَذَا مَا يَقْتَضِيهِ كَلَامه عز وَجل وَلَا مزِيد عندنَا على ذَلِك وَأما مَا كَانَ بعد ابْتِدَاء الْخلق فمعروف الكيفيات قَالَ تَعَالَى {وتمت كلمة رَبك صدقا وعدلاً لَا مبدل لكلماته} فصح أَنه لَا تَبْدِيل لما رتبه الله تَعَالَى مِمَّا أجْرى عَلَيْهِ خلائقه حاشا مَا أحَال فِيهِ الرتب والطبائع للأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام فَإِن اعْترضُوا أَيْضا بقول الله تَعَالَى يصف الْحِجَارَة وَأَن من الْحِجَارَة {لما يتفجر مِنْهُ الْأَنْهَار وَإِن مِنْهَا لما يشقق فَيخرج مِنْهُ المَاء وَإِن مِنْهَا لما يهْبط من خشيَة الله} فقد علمنَا بِالضَّرُورَةِ أَن الْحِجَارَة لم تُؤمر بشريعة وَلَا بعقل وَلَا بعث إِلَيْهَا نَبِي قَالَ تَعَالَى {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} فَإذْ لَا شكّ فِي هَذَا فَإِن القَوْل مِنْهُ تَعَالَى يخرج على أحد ثَلَاثَة أوجه
أَحدهَا أَن يكون الضَّمِير فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِن مِنْهَا لما يهْبط} رراجع إِلَى الْقُلُوب الْمَذْكُورَة فِي أول الْآيَة فِي قَوْله تَعَالَى {ثمَّ قست قُلُوبكُمْ من بعد ذَلِك فَهِيَ كالحجارة أَو أَشد قسوة} الْآيَة فَذكر تَعَالَى أَن من تِلْكَ الْقُلُوب القاسية مَا يقبل الْإِيمَان يَوْمًا مَا فيهبط عَن الْقَسْوَة إِلَى اللين من خشيَة الله تَعَالَى وَهَذَا أَمر يُشَاهد بالعيان فقد تلين الْقُلُوب القاسية بلطف الله تَعَالَى ويخشى العَاصِي وَقد أخبر عز وَجل أَن من أهل الْكتاب من يُؤمن بِاللَّه وَمَا أنزل إِلَيْنَا وَمَا أنزل إِلَيْهِم وكما أخبر تَعَالَى أَن من الْأَعْرَاب من يُؤمن بِاللَّه من بعد أَن أخبر تَعَالَى أَن الْأَعْرَاب أَشد كفرا ونفاقاً وأجدر أَلا يعلمُوا حُدُود مَا أنزل الله على رَسُوله فَهَذَا وَجه ظَاهر مُتَيَقن الصِّحَّة
وَالْوَجْه الثَّانِي أَن الخشية الْمَذْكُورَة فِي الْآيَة إِنَّمَا هِيَ التَّصَرُّف بِحكم الله تَعَالَى وجري أقداره كَمَا قُلْنَا فِي قَوْله تَعَالَى عز وَجل حاكياً عَن السَّمَاء وَالْأَرْض قَالَتَا أَتَيْنَا طائعين وَقد بَين جلّ وَعز ذَلِك مَوْصُولا بِهَذَا اللَّفْظ فَقَالَ جلّ وَعز {فقضاهن سبع سماوات فِي يَوْمَيْنِ وَأوحى فِي كل سَمَاء أمرهَا} فَبين الله تَعَالَى بَيَانا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute