إن أحمد بن محمد بن عبد ربه عاش نيفًا وثمانين عامًا في الأندلس بمدينة قرطبة مولدًا ووفاة بين عامي ٢٤٦، ٣٢٨هـ، أي أنه عاش النصف الأخير من القرن الثالث وأكثر قليلًا من الربع الأول من القرن الرابع، فقد عاش إذن في الفترة التي كانت الأندلس تبني فيها شخصيتها العربية الإسلامية، وذلك بالإقبال على العلم والدرس والتحصيل اعتمادًا على العلوم والمؤلفات الوافدة بكثرة ووفرة من المشرق العربي والإسلامي.
ولقد عاش أحمد بن عبد ربه ناسكًا في محراب العلم، عاكفًا على أسباب الثقافة متحليًا بالخلق والدين والورع، بحيث أجمع كل من أرخ له أنه كان أهل علم وأدب ورياسة وشهرة مع ديانة وصيانة، وكان موضعًا لاحترام الملوك الأندلسيين الكبار ابتداء من أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن الأوسط، حتى عبد الرحمن الناصر. وقد كان ملوك الأندلس جميعًا وبغير استثناء يحترمون العلماء ويضعونهم موضعهم من الإجلال والتقدير والاحترام؛ ذلك لأنهم كانوا ملوكًا مثقفين على علم وأدب، ولم يكونوا سوقة أو مغامرين. وفي الوقت نفسه كان العلماء متحلين بأخلاق العلم لابسين ثوب الحشمة والوقار، غير متهافتين على المناصب ولا مترخصين في سلوكهم، ولا متهاونين في كراماتهم، الأمر الذي جعل الملوك يحترمونهم ويخشون نقدهم ويتحاشون جانب الاعتداء عليهم. بل إنهم كانوا يستمعون منهم إلى النقد العنيف إذا ما ندت ندوة من ملك أو سقطة من سلطان، فلا يملك هذا الملك أو ذاك على جليل ملكه ورفعة شأنه إلا الطاعة للعالم والامتثال لنصائحه.
إن أحمد بن عبد ربه عاش في هذا المحيط، ونال التكريم من ثلاثة ملوك كبار عاصرهم