إنًّ عبد الملك بن قريب أبا سعيد الأصمعي واحد من ألمع علماء العربية وأدبائها ومن أشهرهم في الأسماع وأكثرهم ذكرًا في الكتب وجريًا على الألسنة وفضله وأدبه ونوادره وظرفه وآثاره وكتبه.
لقد عاش في تلك الفترة المزدحمة بالعلماء الذين مر طرف من ذكرهم، فترة الخصوبة والعطاء والإنتاج والمناظرة والمزاحمة العلمية بالمناكب، وعاصر أكثر هؤلاء العلماء وله معهم قصص وأخبار ومناظرات، وله مع أعلام عصره من خلفاء ووزراء وحجاب وقواد طرائف تحكى ونكت تذكر.
كان الأصمعي بصري المولد والوفاة مخلصًا لوطنه الصغير متعلقًا به، خرج يطوف في البوادي يسمع من الأعراب الغريب من الألفاظ والطريف من النوادر ويجلس إلى الخلفاء يطرفهم بها ويزيل ضجرهم، فكان يلقى منهم العطاء الوفير، فلما تقدمت به السن عاد إلى موطنه البصرة وظل فيه إلى أن توفي سنة ٢١٦هـ وقيل قبل ذلك بعام حسب الروايات التي جاءت بها كتب التراجم، ومهما كان الأمر فقد عاش الرجل ما يناهز خمسة وثمانين عامًا، شأنه شأن أقرانه من علماء زمانه الذين عرفوا بطول العمر وسخاء العطاء الفكري والأدبي.
قلنا إن الأصمعي كان يجوب البوادي ليحصل الغريب ويجمع النوادر، وهو في ذلك يسعى إلى العلم سعيًا يجمعه بنفسه في تعب وكد، تمامًا كما كان يفعل رجال الحديث الذين كان يسافر الواحد منهم مئات عديدة من الأميال لكي يحقق حديثًا شريفًا أو حديثين، ولكن الأصمعي لم يفعل ذلك وحسب، ولكنه كان يختلف إلى علماء عصره ليسمع منهم ويتعلّم.