إن الذي يذكر الجاحظ وعلمه وفضله وكتبه لا يستطيع أن يقف عنده، بل لا بد له أن ينطلق مباشرة إلى عالم آخر من علماء العربية ومفكر من مفكري الإسلام ومؤلف واسع الباع عميق الإدراك متشعب الثقافة متنوع أسباب المعرفة، هو أبو محمد عبد الله بن مسلم المعروف بابن قتيبة الدينوري. وإنما يذكر ابن قتيبة إذا ذكر الجاحظ لأن الجاحظ كان مفكر المعتزلة وخطيبهم، وابن قتيبة خطيب أهل السنة ومفكرهم. ومن هنا قيل إن ابن قتيبة لأهل السنة مثل الجاحظ للمعتزلة.
وابن قتيبة لم يعمر طويلًا كما عمر الجاحظ وإنما كانت حياته ثلاثًا وستين سنة مليئة بالعلم والمعرفة والإنتاج، فقد ولد ببغداد سنة ٢١٣هـ إلا أنه سكن الكوفة بعض الوقت وتوفي ببغداد على أرجح الروايات سنة ٢٧٦هـ. وإذا كان الجاحظ قد ألف خلال القرن الذي عاشه ثلاثمائة وستين كتابًا، فإن ابن قتيبة قد ألف ثلاثمائة كتاب١ أكثرها من المستوى الرفيع الذي تزدان به المكتبة العربية ويتشرف به الفكر الإسلامي.
لقد كان ابن قتيبة واسع العلم رحب الفكر ثقة دينًا فاضلًا، ولذلك فإن أهل المغرب قد تعصبوا للإمام مالك فقالوا: من استجاز الوقيعة في ابن قتيبة يتهم بالزندقة؛ ذلك لأن كثرة من أعدائه وحاسديه قد نسبوا إليه أمورًا تنال من إيمانه ولم يكن الرجل من هذه التهم في شيء، الأمر الذي جعل المغاربة لا يتعصبون له وحسب بل يتبركون به ويقولون: كل بيت ليس فيه شيء من تصنيف ابن قتيبة لا خير فيه. ولعل السبب الأكبر في ذلك هو أن ابن قتيبة