منذ سنوات عديدة كانت فكرة إصدار كتاب يعالج مناهج التأليف عند العلماء المسلمين تراودني وتروق لي، ولكن ما إن كنت أبدًا في التنفيذ حتى أراني أحجم وأتردد وقد تمثل أمامي خطر الموضوع الذي أحاول علاجه؛ لأنه من الاتساع والعمق بحيث يتناول تراث أمة عظيمة، تبلورت عظمتها في عقيدتها وتراثها: لغة وأدبًا وفكرًا. فلما كانت السنوات الأخيرة ألحت فكرة الكتاب على خاطري بحيث لم أستطع منها فرارًا على الرغم من اقتناعي بأن مثل هذا العمل يحتاج إلى فريق من العلماء يضطلعون به ويسهرون عليه ويولونه كل اهتمامهم ويضمنونه ثمرات تجاربهم وحصاد أفكارهم، فاستخرت الله وقررت أن أبدأ في إصدار هذا المجلد وجعلته خاصًّا بمناهج التأليف في الأدب، آملًا إن وهبني الله القدرة وفسحة الأجل أن أضطلع بمتابعة الجهد في إصدار كتب تالية تتناول مناهج التأليف في بقية موضوعات التراث.
أما وإني أقدم مناهج التأليف عند العلماء العرب والمسلمين في نطاق الأدب، فإنه يجمل بي أن أعرض منهجي في هذا الكتاب.
لقد حاولت أن أقدم منهجًا وسطًا بعيدًا عن التدخل بريئًا من التعقيد، بل هو أقرب إلى اليسر والبساطة، فقد جعلت الكتاب ينتظم أحد عشر بابًا، خصصت الباب الأول منه للحديث، عن فجر التحرك العقلي العربي والإسلامي والتدوين في نطاق العلوم القرآنية والحديث الشريف وألوان من العلوم والمعارف.
ولما كان المؤلف لا يستطيع أن يخط حرفًا دون أن يكون متقنًا للكتابة والإنشاء، وكلاهما ثمرة للتحرك الثقافي الإسلامي -إذ لم يكن العرب يقرأون أو يكتبون قبل الإسلام- فقد خصصت الباب الثاني للحديث عن حركة الكتابة والإنشاء وتطورها ومسيرتها في إيجاز مع ذكر مصادر النثر العربي على سبيل الإجمال.
وأما الفصل الثالث فقد أفردناه للحديث عن رواد التأليف الأدبي غير المتخصص، فقد كان المؤلفون آنئذ يجمعون بين الأخبار والأشعار والنوادر واللغة والتاريخ وقضايا النحو وانتجاع الحكمة بين دفتي الكتاب الواحد، وممن سلك هذا النهج على سبيل المثال النضر بن شميل وابن الكلبي وأبو عبيدة والأصمعي والهيثم بن عدي والمدائني. ونلاحظ أن أكثر هؤلاء العلماء قد عاشوا حياتهم العقلية في القرن الثاني الهجري.