وتثمر طريقة المقريزي في تبني فكرة الموسوعة التاريخية حين يتوفر معاصره -الأصغر عمرًا- أبو المحاسن جمال الدين يوسف ابن تغري بردي ابن عبد الله الظاهري الحنفي ويقدم لنا موسوعته الثمينة "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة".
والاسم الذي عرف به مؤلفنا واشتهر -ابن تغري بردي- كلمة تترية معناها "عطاء الله" ذلك أن تغري بردي هذا كان أحد مماليك السلطان برقوق ومن أمراء جيشه المتقدمين، وحين مات سنة ٨١٥هـ كان عمر ولده يوسف عامين، فسهر على تربيته وفاء واحتسابًا جلال الدين البلقيني الذي كان يشغل منصب قاضي القضاة، وعهد به إلى من لقنه الأدب والحديث والتاريخ، وعلمه النغم والإيقاع ودربه على الفروسية، فكان حصاد ذلك كله ذخيرة ثمينة في علوم زمانه.
إن ابن تغري بردي القاهري المولد والوفاة، شأنه في ذلك شأن المقريزي وابن حجر، عاش بين سنتي ٨١٣-٨٧٤هـ أي أنه كان في الثانية والثلاثين حين مات المقريزي ومن ثم -وقد كان المقريزي شيخ مؤرخي عصره- يكون ابن تغري بردي واحدًا من تلاميذه العظام، وذلك هو السبب في أنه حاول إكمال كتاب "السلوك" الذي ألفه أستاذه فكتب كتابه "حوادث الدهور في مدى الأيام والشهور" وجعله ذيلًا للسلوك، وهي طريقة علمية نبيلة درج على السير في نهجها كثير من علماء المسلمين في أكثر ميادين المعرفة حينما كان يكمل العالم عمل العالم الذي سبق، بحيث ترك لنا علماء حضارتنا سلاسل متصلة الحلقات موصولة الأسباب والأزمان في كثير من علوم الأدب والتاريخ واللغة.
ليس من شك في أن أبا المحاسن جمال الدين يوسف بن تغري التتري واحد من هدايا الحضارة الإسلامية إلى علم التاريخ الإسلامي فلم تمنعه تتريته من أن يكون صاحب عدد من الموسوعات، وليس موسوعة واحدة، ذلك أن الحضارة الإسلامية ليست مقصورة على جنس دون جنس وإنما كل من أظلته سماحة العقيدة وأنارت الثقافة الإسلامية طريقه يستطيع متى أحسن إعداد نفسه أن يكون إمامًا في علمه ورائدًا في فنه.
لقد عمدنا إلى تأكيد هذا المعنى؛ لأن أبا المحاسن نفسه ثمرة حقيقية لغرس إسلامي دفع به إلى أن يترك لنا خمسة كتب كبيرة، أربعة منها تعتبر موسوعات تاريخية جليلة هي "النجوم