ولماذا نذهب بعيداً؟ لقد عرف العقل الإسلامي الموسوعات على أول عهده بالتأليف، وربما كانت الموسوعات الأولى مثل الحيوان للجاحظ وعيون الأخبار لابن قتيبة أقرب منهجًا إلى الموسوعات المملوكية، ولعل عيون الأخبار أكثر قربًا إليها من غيرها، وليس من شك في أن البيان والتبيين، والحيوان، وعيون الأخبار موسوعات أدبية لغوية تاريخية سياسية علمية، وهناك الموسوعات التاريخية التي بدأت مبكرة منذ القرن الثاني، مثل السيرة لابن هشام المتوفي ٢٢٣هـ، ومثل "أخبار الرسل والملوك" لمحمد بن جرير الطبري ٢٤٤ - ٣١٠هـ، وتقع هذه الموسوعة التاريخية في أحد عشر جزءًا، وعن الطبري يقول ابن الأثير: إنه أوثق من نقل التاريخ.
وتتتابع الموسوعات الباكرة زمنيًّا فيظهر "العقد الفريد" لأحمد بن عبد ربه الذي عاش حياته كلها بين ٢٤٦ - ٣٢٨هـ في الأندلس لم يغادرها، وبعد ذلك بقليل تظهر في بغداد موسوعة من أهم موسوعات العربية هي "كتاب الأغاني" لأبي الفرج الأصبهاني ٢٨٤ - ٣٥٦هـ، تلك الموسوعة التي لا تلبث أن تذيع في كل أنحاء العالم الإسلامي مشرقًا حتى أصبهان حيث الصاحب بن عباد، وشمالًا حتى حلب حيث سيف الدولة الحمداني، ومغربًا حتى قرطبة الأندلس حيث عبد الرحمن الناصر وابنه المستنصر. إن كتاب الأغاني دون أدنى شك أكبر وأثمن الموسوعات الأدبية والتاريخية والاجتماعية والموسيقية الغنائية، والجغرافية، والفكاهية.
وإذا جاز لدارس أن يشكك في الصيغة الموسوعية لأي من الكتب الكبيرة التي ذكرنا -وما أحسب أن دارسًا متفهمًا يفعل- فإنه من الصعب على أي باحث كبر شأنه أو صغر أن يجادل في الصفة الموسوعية المتكاملة لكتاب الأغاني. لقد كان الصاحب بن عباد لولعه بمصاحبة الكتب وحرصه على دوام القراءة يستصحب حين يسافر ثلاثين جملًا محملة بالكتب، فلما وصل إلى يده كتاب الأغاني استغنى به عنها جميعاً -حسبما مر بنا عند