للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بذكر الديار والدمن والآثار، فبكى وشكا، وخاطب الربع، واستوقف الرفيق، ليجعل ذلك سببًا لذكر أهلها الظاعنين عنها، إذ كان نازلة العمد* في الحلول والظعن على خلاف ما عليه نازلة المدر، عن ماء إلى ماء، وانتجاعهم الكلأ، وتتبعهم مساقط الغيث حيث كان. ثم وصل ذلك بالنسب، فشكا شدة الوجد وألم الفراق، وفرط الصبابة والشوق، ليمل نحوه القلوب، ويصرف إليه الوجوه، وليستدعي به إصغاء الأسماع إليه؛ لأن التشبيب قريب من النفوس، لائط بالقلوب، لما قد جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل، وإلف النساء، فليس يكاد أحد يخلو من أن يكون متعلقًا منه بسب، وضاربًا فيه بسهم، حلال أو حرام، فإذا علم أنه قد استوثق من الإصغاء إليه، والاستماع له، عقب بإيجاب الحقوق فرحل في شعره، وشكا النصب والسهر، وسرى الليل وحر الهجير، وإنضاء الراحلة والبعير، فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حق الرجاء، وذمامة"**" التأميل وقرر عنده ما ناله من المكاره في المسير، بدأ في المديح، فبعثه على المكافأة، وهزه للسماح، وفضله على الأشياء، وصغر في قدره الجزيل.

فالشاعر المجيد من سلك هذه الأساليب، وعدل بين هذه الأقسام، فلم يجعل واحدًا منها أغلب على الشعر، ولم يطل فيمل السامعين، ولم يقطع بالنفوس ظمأ إلى المزيد.

فقد كان بعض الرجاز أتى نصر بن سيار والى خراسان لبني أمية١، فمدحه بقصيدة، تشبيبها مائة بيت، ومديحها عشرة أبيات، فقال نصر: والله ما بقيت كلمة عذبة ولا معنى لطيفًا إلا وقد شغلته عن مديحي بتشبيبك، فإن أردت مديحي فاقتصد في النسيب، فأتاه فأنشده:

هل تعرف الدار لأم الغمر ... دع ذا وحبر مدحة في نصر

فقال: ولا هذا ولكن بين الأمرين.

على أن ابن قتيبة يركز دراسته النقدية للشعر، ويتبعها للمنهج الذي وضعه لكتابه وجعله مقدمة واستهلالًا، وتظل الروح النقدية تتقلص رويدًا حتى تنعدم في متن الكتاب اللهم إلا في حالة رد معنى إلى شاعر سابق أو سحبه على شاعر لاحق.

هذا وابن قتيبة يغفل في كتابه هذا عن تاريخ ولادة الشعراء وسنوات وفاتهم غفلة تامة.


*نازلة العمد: هم أصحاب الأبنية الرفيعة الذين ينتقلون بأبنيتهم، ونحو ذلك فسر الفراء قوله تعالى: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} "إنهم كانوا أهل عمدة ينتقلون إلى الكلأ حيث كان ثم يرجعون إلى منازلهم".
** الذمامة، بفتح الذال وكسرها: الحق والحرمة.
١ ولي نصر بن سيار خراسان سنة ١٢٥هـ، وولاه إياها الوليد بن يزيد بن عبد الملك.

<<  <   >  >>