ولكنه بالإضافة إلى ذلك كان عالمًا بالقراءة والحديث، والفقه، والعربية، ولغات العرب، بل إنه واحد من أساتذة أبي الأسود الدؤلي صاحب علم النحو١.
قد يبدو هذا الضرب من الكتابة وعر الأسلوب بمقياس زمماننا، ولكنه في حقيقته كان يعتبر مثلًا أعلى للفصاحة على زمانه، فإن هذه الصياغة قد استوقفت الحجاج وجعلته بيدي إعجابه وتعجبه في وقت واحد ظانًّا أن هذا الأسلوب من الإنشاء هو أسلوب يزيد بن المهلب، وقال: ما لابن المهلب وهذا الكلام فقيل له: إن يحيى بن يعمر عنده، فقال: ذاك إذن، يعني لقد زال العجب.
واستطرادًا للحديث عن يحيى بن يعمر، نذكر أن الحجاج لما أعجب به أو بالأحرى برسالته أمر بأن يحمل إليه، فلما أتاه، قال له: أين ولدت؟ قال بالأهواز، قال: فأنى لك هذه الفصاحة؟ قال: أخذتها عن أبي وجرى بينه وبين الحجاج أكثر من حوار، وكان الحجاج -فيما نعلم جميعًا- خطيبًا بليغًا فصيحًا ذا منطق وإبانة لا يشق له غبار، حتى إن أبا عمرو بن العلاء قال في شأنه: ما رأيت أحدًا أفصح من الحسن البصري والحجاج. سأل الحجاج يحيى ذات يوم قائلًا: أتجدني ألحن؟ فقال مجاملًا: الأمير أفصح من ذلك، فقال الحجاج مؤكدًا: عزمت عليك، أتجدني ألحن؟ فقال يحيى: نعم. فقال له في أي شيء فقال: في كتاب الله تعالى. فقال: ذلك أسوأ، ففي أي حرف من كتاب الله؟ قال: قرأت: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ} فرفعت "أحب" وهو منصوب، فغضب الحجاج وكان من عنف الغضب ما نعلم، وقال: لا تساكنني في بلد أنا فيه، ونفاه إلى خراسان.
فإذا كان الحجاج قد ملك عشرين سنة ومات سنة ٩٥هـ وإذا كان يزيد بن المهلب قد ولي إمرة خراسان ست سنوات ٨٣-٨٩هـ فإن يحيى بن يعمر يكون قد مارس الكتابة في العقد التاسع من القرن الأول الهجري، أي قبل أن يمارسها، أو بعبارة أخرى، قبل أن يستوي على عرشها عبد الحميد بن يحيى المعروف بعبد الحميد الكاتب بما يقارب ثلث قرن من الزمان أو أكثر قليلًا، ولا يقلل من هذه الحقيقة أن يحيى بن يعمر مات سنة ١٢٩ هـ وعبد الحميد قتل سنة ١٣٢هـ ذلك أن الأول كان شيخًا كبيرًا حين كان الثاني في فتوة الشباب.