ولم تكن هذه الرسالة هي المثال الوحيد الذي أثر عن عبد الله بن معاوية، فإن له رسالة أخرى ذكرها صاحب البيان والتبيين وجهها إلى أبي مسلم الخراساني من السجن الذي كان أودع فيه بعد أن أسره رجال أبي مسلم في أواخر أيام بني أمية، تعتبر من أرق الرسائل وأكثرها إشراقًا وأيسرها أسلوبًا يقول فيها:
"من الأسير في يديه بلا ذنب إليه، ولا خلاف عليه، أما بعد: فأتاك الله حفظ الوصية، ومنحك نصيحة الرعية، وألهمك عدل القضية، فإنك مستودع ودائع، ومولى صنائع، فاحفظ ودائعك بحسن صنائعك، فالودائع عارية والصنائع مرعية، وما النعم عليك وعلينا فيك بمنذور نداها ولا بمبلوغ مداها. فنبه للتفكر قلبك، واتق الله ربك، وأعط من نفسك لمن هو تحتك ما تحب أن يعطيك من هو فوقك من العدل والرأفة والأمن من المخافة، فقد أنعم الله عليك، بأن فوض أمرنا إليك، فاعرف لنا لين شكر المودة، واغتفار مس الشدة والرضى بما رضيت، والقناعة بما هويت، فإن علينا من سهك الحديد وثقله أذى شديدًا مع معالجة الأغلال وقلة رحمة العمال الذين تسهيلهم الغلظة وتيسيرهم الفظاظة وإيرادهم علينا الغموم وتوجيههم إلينا الهموم، وزيارتهم الحراسة وبشارتهم الإياسة.
فإليك بعد الله نرفع كربة الشكوى، ونشكو شدة البلوى، فمتى تملي إلينا طرقًا، وتقول فك عطفًا، تجد عندنا نصحًا صريحًا، وودًّا صحيحًا، لا يضيع مثلك مثله، ولا ينفي مثلك أهله. فارع حرمة من أدركت بحرمته، واعرف حجة من فلجت بحجته، فإن الناس من حوضك رواء، ونحن منه ظماء، يمشون في الأبراد ونحن نرسف في الأقياد، بعد الخير والسعة، والخفض والدعة، والله المستعان وعليه التكلان، صريخ الأخيار ومنجي الأبرار، الناس من دولتك رخاء، ونحن منها في بلاء، حين أمن الخائفون، ورجع الهاربون، ورزقنا الله منك التمنن، ظاهر علينا منك التحنن، فإنك أمين مستودع، ورائد مصطنع والسلام ورحمة الله".
لقد كان عبد الله الطالبي بهذا المنهج المتين المسبوك المحكم وهذا الأسلوب الأنيق المخدوم يمثل المرحلة الثانية في تطور الكتابة العربية التي لا مناص من إجادتها وإرساء قواعدها قبل الانتقال إلى مرحلة التأليف. هذا وكان عبد الله شاعرًا أيضًا وهو صاحب البيت المشهور:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ... ولكن عين السخط تبدي المساويا
وقد وفد عليه كثير من الشعراء مادحين وممتاحين وفي مقدمتهم الشاعر الكبير إبراهيم بن هرمة الذي قال فيه مدائح تعتبر من أرق المدائح التي قالها شاعر في ممدوح بعينه.
فإذا ما انتقلنا إلى مدرسة الفرس من الكتاب ونعني سالمًا وعبد الحميد فإن سالمًا مولى