للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

اشتهر سخفًا وجنونًا وهجر مفروضًا ومسنونًا، وضل فيما يتسرع ولا يأخذ في غير الأباطيل ولا يشرع، ولا يرد سوى الغمة ولا يكرع، ناهيك من رجل ما تطهر من جنابة، ولا أظهر مخيلة إنابة ... الإساءة إليه أجدى من الإحسان، والبهيمة عنده أهدى من الإنسان، نظر في تلك التعاليم وفكر في أجرام الأفلاك وحدود الأقاليم، ورفض كتاب الله العلي العظيم١.

ويمضي الفتح إمعانًا في هجر الوزير الفيلسوف والنيل من قدره، وتقبيح معتقده وتشويه صورته وكأنما قد صنع فيه قصيدة من أقذع أنواع الهجاء، الأمر الذي يجعلنا نصدق ياقوتًا فيما ذهب إليه؛ لأن ابن باجه كان صاحب عقل ومنطق وفكر وقلم وأدب وعلم وفلسفة ودين.

فإذا ما ترجم الفتح لمن وصله بعطاء، وأهدى إليه بعض المال ولو كان خامل الذكر، فإنه يخلع عليه من أسباب المديح ما يضعه في مرتبة الكواكب، فحين يترجم لأبي العلاء بن صهيب مثلًا -وهو أقل من أن يقارن بالفيلسوف ابن باجه- يقدمه هكذا "نبيل المنازع جميل المنازع، كريم العهد ذو خلائق كالشهد، كثير الافتتان، جال في ميدان الذكاء بغير عنان:

وكالسيف إن لاينته لان متنه ... وحداه إن خاشنته خشنان

مع فخر متأصل، وفهم إلى كل غامض متوصل، شقي بأبي أمية أوانًا، ولقي كل من صاحبه خزيًا وهوانًا٢.. إلخ" وهكذا نجد الفتح بن خاقان معيبًا في طريقة ترجمته لأعيان كتابته، ومن ثم فإننا نأخذ روايته الأخبار بحذر، وأما النصوص التي ضمنها كتابه فهي من الإمتاع بمكان، ذلك أنها انتقاء أصحابها، واختيار منشئيها، وليس للمؤلف فيها من فضل إلا التجميع والتحبير.

ثانيًا: وإذا كانت هذه هي مآخذنا على كتاب القلائد فإننا لا نستطيع أن نحجب مزاياه الظاهرة وفوائده الواضحة الوافرة، والكتاب يضم ثماني وخمسين ترجمة هي عدد الأدباء الذين تحدث عنهم، وهم يمثلون كل أقاليم الأندلس على زمانه تقريبًا، ومن ثم فإن الكتاب يغطي من هذه الناحية فترة زمنية محدودة بالنصف الثاني من القرن الخامس، والربع الأول من القرن السادس الأمر الذي يدل على غنى الأرض الأندلسية من الأدباء شعراء وكتابًا، وقد قسم الفتح كتابه إلى أربعة أقسام، صنف أعيانه تصنيفات متجانسة، فجعل القسم الأول للملوك والرؤساء، من أمثال المعتمد بن عباد، والمتوكل المظفري، والمعتصم بن صمادح وغيرهم ممن هم أمثالهم في المكانة والرئاسة. وجعل القسم الثاني في الترجمة للوزراء.


١ قلائد العقيان "ص٢٩٨".
٢ المصدر نفسه "ص٢٨١".

<<  <   >  >>