للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

"وقد أودعت هذا الديوان الذي سميته بكتاب الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة من عجائب علمهم، وغرائب نثرهم ونظمهم ما هو أحلى من مناجاة الأحبة، بين التمتع والرغبة، وأشهى من معاطاة العقار على نغمات المثاليث والأزيار؛ لأن أهل هذه الجزيرة منذ كانوا رؤساء خطابة، ورءوس شعر وكتابة، تدفقوا فأنسوا البحور، وأشرقوا فباروا الشموس والبدور، وذهب كلامهم بين رقة الهواء، وجزالة الصخرة الصماء، كما قال صاحبهم عبد الجليل بن وهبون يصف شعره:

رقيق كما غنت حمامة أيكةٍ ... وجزل كما شق الهواء عقاب

على كونهم بهذا الإقليم، ومعاقبتهم لطوائف الروم، وعلى أن بلادهم آخر الفتوح الإسلامية، وأقصى خطى المآثر العربية، ليس وراءهم وأمامهم إلا البحر المحيط، والروم والقوط، فحصاة من هذه حاله بتير وثمده بحر مسجور".

رابعًا: بينما يتعصب ابن بسام لقومه ذلك التعصب البغيض ضد المشارقة نجده يفاجئنا في القسم الأخير من كتابه بأدب الوافدين على الأندلس من المشرق، وهم كثيرون، وكلهم في الرتبة الرفيعة أدبًا وعلمًا، ولا عليه في ذلك، فربما اعتبرهم أندلسيين ما داموا قد حلوا بالأندلس، وأقاموا فيها إقامة موقوتة أو دائمة، وإنما الذي يدعو إلى الدهشة حقًّا أن يترجم ابن بسام لأدباء مشارقة لم تطأ أقدامهم أرض المغرب أو الأندلس، بل إنهم ليسوا من رجال القرن الخامس الذي أخذ ابن بسام العهد على نفسه ألا يترجم لغير رجاله، فضلًا عن تعمده أن يكونوا أندلسيين، إنه يترجم للعديد من المشارقة من رجال القرن الرابع مثل الشريف الرضي ومهيار الديلمي وأبي منصور الثعالبي وغيرهم، ومن ثم، فإن كتاب الذخيرة، على رغم تحامل صاحبه على المشارقة وتحمسه الشديد للأندلسيين، وتعهده بألا يترجم لغيرهم ملأ صفحات كثيرة من كتابه الكبير بعدد من أدباء المشارقة، وذكر بعض أدبهم وأخبارهم، وهو أمر إن يكن معيبًا منهجيًّا، فإنه مفيد علميًّا، فإن للرجل أسلوبه الخاص وطريقته الواضحة في تقديم الأدباء وآثارهم.

خامسًا: وما دمنا بصدد الحديث عن تعصب ابن بسام على المشارقة، فإننا لا نجد مفرًّا من أن نذكر أنه هو نفسه تلميذ للمشارقة وعالة عليهم في منهج كتابه هذا، إنه من حيث المنهج صورة دقيقة للثعالبي في كتاب "يتيمة الدهر".

إن الثعالبي قسم كتابه -حسبما مر بنا في مكانه من هذا الكتاب- إلى أربعة أقسام هي: القسم الأول في آل حمدان وشعرائهم وغيرهم من أهل الشام وما يجاورها والموصل ومصر والمغرب والأندلس، والقسم الثاني في أشعار أهل العراق والدولة الديلمية، وكتابهم والقسم الثالث في أشعار أهل الجبل وفارس وجرجان، وطبرستان وأصفهان من وزراء وكتاب

<<  <   >  >>