الرابع، وهذا المقدار يمثل كنزًا ثمينًا ينبغي إزاحة الستار عنه، وذلك بتحقيقه تحقيقًا دقيقًا ونشره نشرًا متقنًا؛ لأنه لا غنًى عنه لكل من يعرض للدراسات الأدبية الأندلسية.
سادسًا: ولم يكن صاحب الذخيرة -على نفاستها- متعصبًا للأندلسيين على المشارقة وحدهم، وإنما كان متعصبًا للكتاب على الشعراء، فهو يخصهم بالتقديم ويغمرهم بالتكريم ويكثر من أخبارهم ومجاملتهم وهذا الأمر لا يعتبر غريبًا لأن ابن بسام ينتسب إلى طائفة الكتاب أكثر من انتسابه إلى طائفة الشعراء، ذلك أن نثره عذب على ما فيه من صناعة وترسله أنيق على ما فيه من إسراف في البديع، وشعره أقرب إلى النظم العادي إلا في حالات قليلة، كما أنه يقدم الملوك والأمراء دائمًا على الأدباء من كتاب وشعراء، إنه والأمر كذلك صورة دقيقة أخرى للثعالبي في "اليتيمة" وحسبنا أن نقرأ ما كتبه الثعالبي عن سيف الدولة الحمداني أو عضد الدولة البويهي من الملوك، وعن الكتاب، يكفينا أن نقرأ ما كتبه عن ابن العميد أو الصاحب بن عباد أو أبي إسحاق الصابي، أو بديع الزمان الهمذاني أو أبي بكر الخوارزمي، أو أبي الفرج الببغاء من الكتاب لنلمس كم كان الثعالبي متعصبًا للكتاب في اليتيمة، مثلما تعصب ابن بسام لهم في الذخيرة.
ومهما كان الأمر في المقارنة بين الكاتبين الكبيرين، فإننا نخالف من ذهب إلى تفضيل ابن بسام على الثعالبي، وهو ما ذهب إليه الأستاذ الدكتور طه حسين في تقديمه للذخيرة، إن جهد ابن بسام كله قد انحصر في كتابه هذا، وأما الثعالبي فقد كان متعدد الثقافات، وله العديد من المؤلفات الطريفة النفيسة -حسبما مر بنا الحديث عنه- وليس من العدل أن نقارن بين شخصيتين، ونقوم بتفضيل صاحب عمل واحد ناجح على صاحب أعمال كثيرة باهرة، هذا فضلًا على كونه -أي الثعالبي- رائد هذا اللون من التأليف الأدبي.
وكما أن "قلائد العقيان" ومطمح الأنفس يمثلان مصدرًا أساسيًّا للمؤرخين والمؤلفين المتأخرين في نطاق الدراسات الأندلسية، فإن "الذخيرة" هي الأخرى مصدر غني ومورد عذب نهل منه بغزارة كل من كتب بعد ابن بسام في تاريخ الأندلس وآدابها ويكفي أن كتاب "المغرب في حلى المغرب" أخذ عنه نيفًا وتسعين خبرًا ونصًّا.
هذا ومن الطريف أن علماء الأندلس كانوا -مثل المشارقة- يكمل المتأخر منهم ما فات المؤلف المتقدم أن يذكره، أو يصحح في حالات الخطأ، وقد فعل ذلك أبو عمرو ابن الإمام حين ألف كتابًا أسماه "سمط الجمان وسقط اللآلي وسقط المرجان" ذكر فيه من أخل ابن بسام والفتح بن خاقان بتوفية حقه من الفضلاء، واستدرك من لحقه بعصره في بقية المائة الخامسة، وقيل بل السادسة، إلا أن الكتاب لم يصل إلينا وإنما يأخذ عنه صاحبا "المغرب" و "نفح الطيب" كثيرًا.