للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وحتى نكون على الخط العربي في غير ما عصبية أو تحمس فإن جميع نصائح عبد الحميد للكاتب لكي يكون ناجحًا لم تخرج عن حفظ القرآن الكريم، واستيعاب لغة العرب ورواية أشعارهم ومعرفة أيامهم ثم أيام العجم، وإذن فالكتابة معينها عربي وسبيلها عربي حتى لو جرى بها قلم من لم يكن عربي الأرومة مثل عبد الحميد، على أنه إذا لم يكن عربي الأرومة فقد كان عربي الثقافة واللسان والمعرفة والمشاعر.

لقد كان عبد الحميد بليغًا كل البلاغة في كتابته. وكما كان بليغًا في كتابته، فإنه كان بليغًا في حديثه المرتجل وحواره الذي يجري على لسانه عفو الخاطر. وتحكى في ذلك قصص كثيرة طريفة، فقد كان يساير يومًا مروان على دابة طالت حيازته لها، فقال له الخليفة: قد طالت صحبة هذه الدابة لك، فقال: يا أمير المؤمنين، إن بركة الدابة طول صحبتها، وقلة علفها، فقال له: فكيف أسيرها، فقال عبد الحميد: همها أمامها وسوطها عنانها، وما ضربت قط إلا ظلمًا.

ويعظم قدر عبد الحميد في السياسة والكتابة، وكان أبو جعفر المنصور كثيرًا ما يقول بعد أن أصبح خليفة: غلبنا بنو مروان بثلاثة أشياء، بالحجاج وبعبد الحميد بن يحيى والمؤذن البعلبكي.

ولعبد الحميد كلمات مأثورة لعلها من أبلغ ما أثر عن الأدب العربي من جمل قصار منها قوله:

العلم شجرة ثمرتها الألفاظ والفكر بحر لؤلؤه الحكمة.

ومن كلماته الجميلة أيضًا قوله:

الناس أصناف مختلفون، وأطوار متباينون، منهم علق مضنة لا يباع، ومنهم غل مظنة لا يبتاع. وكان إبراهيم بن العباس يقول: ما تمنيت من كلام أحد أن يكون لي إلا كلام عبد الحميد حيث يقول: الناس أصناف ...

وإذا كان لنا أن نعرض لأنموذج من رسائل عبد الحميد، وهو المستوى الذي وصل إليه القلم العربي بحيث أصبح قادرًا على التصرف في المعاني ثم تصوير الأفكار، وبالتالي أصبح قادرًا على تأليف الكتاب الناضج الكامل الاستواء، فلا بأس من أن نعرض طرفًا من رسالة كتبها إلى أهله.

حينما أحس عبد الحميد بنهايته كتب إلى أهله، وكانوا ينزلون بالقرب من الرقة يعزيهم في نفسه، ضمنها الكثير من فلسفته وبلاغته وشفافية أسلوبه وفيها يقول:

أما بعد، فإن الله جعل الدنيا محفوفة بالكره والسرور، وجعل فيها أقسامًا مختلفة بين أهلها، فمن درت له بحلاوتها، وساعده الحظ فيها، سكن إليها ورضي بها، وأقام عليها،

<<  <   >  >>