التربية والتعليم، وخدمة السلف، وتخليد الآثار، وتسمية الولد، وتلقيب السلطان والإرشاد إلى الأعمال الصالحة".
ويمضي ابن الخطيب طارقًا معنى آخر شجاعًا قائلًا: "وأنا قد رحلت فلا أوصيكم بمال، فهو عندي أهون متروك، ولا بولد -وكان قدر ترك كل أولاده وأهله ما عدا عليًّا- فهم رجالكم وخدامكم، ومن يحرص مثلكم على الاستكثار منهم! ولا بعيال فهي من مزيات بيتكم وخواص داركم".
وينطلق ابن الخطيب إلى خطوة أكثر شجاعة وأقرب فهمًا، وأوفر اعتزازًا بالنفس، وكأنما يحذر ذلك السلطان الذي يدين للوزير الأديب بكل شيء قائلًا: "واعلموا أيضًا على جهة النصيحة أن ابن الخطيب مشهور في كل قطر، وعند كل ملك، واعتقاده وبره والسؤال عنه وذكره بميل والإذن في زيارته حنانة منكم وسعة ذرع ودهاء، فإنما كان ابن الخطيب بوطنكم سحابة رحمة نزلت ثم انقشعت، وتركت الأزاهر تفوح، والمحاسن تلوح"١.
لقد عمدت إلى تسجيل جانب من رسالة الوداع هذه التي ودع لسان الخطيب بها السلطان الغني بالله وأبدى فيها جانب الاعتذار، وإن كان أقرب إلى التقريع والتحذير منها إلى المعنى الظاهر، أقول إني فعلت هذا الصنيع؛ لأني لم أقرأ -إلا في حالات أخرى قليلة- رسالة تعبر عن صميم النفس وصدق المشاعر، وخلجات الإحساس كما عبرت هذه الرسالة؛ ولأن الوزير التارك المرتحل كان يودع معاني أكثر مما يودع أشخاصًا، فإن كان لا بد من وداع الأشخاص، فقد كان يودع أهله وولده ومواطنيه أكثر مما كان يودع شخص السلطان.
غير أن رحلة لسان الدين ورسالته لم تكونا لتمرا بيسر وتسامح، فما إن غاب الرجل حتى استأسد خصومه أما ابن زمرك فقد ولي الوزارة مكانه، وأما القاضي أبو الحسن النباهي "قاضي القضاة" فقد أفتى بوجوب حرق كتب ابن الخطيب التي تناولت العقائد والأخلاق، ثم أتبع ذلك برسالة على جانب كبير من العنف والتهجم بعث بها إلى ابن الخطيب في مستقره الجديد في المغرب.
ولم يقف الأمر بخصوم ابن الخطيب عند حرق كتبه في الساحة العامة في مدينة غرناطة، بل حوكم غيابيًّا بتهمة الإلحاد والزندقة وصدر حكم يؤيد الاتهام، ثم كانت خطوة أخرى أكثر جرأة، حين أرسل الحكم إلى سلطان مراكش مع وفد من رجال الحكم في غرناطة ومطالبة السلطان بتنفيذ حكم الشرع بإعدام الأديب الضيف، فأساء السلطان لقاءهم