تحصيله العلم في سنوات يفاعه التي تتلمذ فيها لصفوة علماء العصر، وفي مقدمتهم الإمام العالم الفارس الورع أحمد بن تيمية، وإذا أسقطنا من حسابنا أيضًا سنوات المحنة التي تعرض لها العالم الجليل والوزير النابه، لم نستطع أن نخفي دهشة ليس إلى تجاهلها من سبيل؛ لأن الآثار العلمية لابن فضل الله العمري تكون قد كتبت في أقل من خمس وعشرين سنة مزدحمة إلى جانب ذلك بهموم الوزارة ورئاسة ديوان الإنشاء، لقد خلف العمري بالإضافة إلى موسوعنه الكبيرة عددًا كبيرًا من الكتب النفيسة التي يبلغ الواحد منها أحيانًا بضعة مجلدات مثل "فواصل السمر في فضائل آل عمر" الذي يقع في أربعة مجلدات، ويسبب تأليفه -فيما يذكر صاحب الدرر الكامنة- لقب شهاب الدين بالعمري. ومن كتبه المطولة أيضًا كتابه "صبابة المشتاق" في المدائح النبوية ويقع هو الآخر مثل سالفه في أربعة مجلدات، وبقية كتبه تدل دلالة واضحة على عبقرية الرجل وتعدد ميادين ثقافته، وموهبة أصيلة في اقتناص المعرفة وهضمها بحيث تنبثق من خواطره بعد ذلك علمًا غزيرًا فياضًا كما تتفجر ينابيع الجبال إثر شتاء سكوب المطر وافر الثلوج، فمن هذه الكتب الأخرى ما هو في التاريخ والجغرافيا مثل كتابيه "ممالك عباد الصليب" والدائرة بين مكة والبلاد، ومنها ما يتصل بعلوم الحديث مثل كتابه "التعريف بالمصطلح الشريف" ومنها ما يتصل بتعليم الإنشاء مثل كتابه "النبذة الكافية في معرفة الكتابة والقافية" ومنها ما كان فيض وجدانه وذوب خواطره في ميادين الأدب مثل "نفحة الروض" و "يقظة الساهر" ومجموعة رسائله التي أسماها "الثنويات".
الحق أننا أمام شخصية أدبية فكرية علمية سياسية فريدة، قصيرة العمر خصيبة الإنتاج، مجرد ظهورها وظهور أترابها ممن نحن بصدد ذكرهم يرفع من قيمة العصر الذي يعيشون فيه ويعلي شأنه ويمجد أيامه.
فإذا ما رجعنا بالحديث إلى كتاب "مسالك الأبصار" وهو فيما يرى مؤرخو الرجل، أجل أعماله وأرجحها وزنًا وأعلاها قيمة، وجدنا أنفسنا أمام موسوعة طابعها العام التخصص غير المقيد بحدود، وهو تعبير قد يبدو غريبًا بعض الشيء، ولكن منهج العمري الجغرافي لم يمنعه من أن يستطرد في حدود المنطق والمنهج إلى التاريخ والأدب والعمارة والآثار والمساجد والكنائس والمعابد والديارات والحانات والأجناس، إن ابن فضل الله العمري في موسوعته "مسالك الأبصار" ينتقل بقارئه في غير ما ملل ولا سأم من واحة أدبية إلى جنة فكرية إلى باحة تاريخية إلى عمائر أثرية، وهو في ذلك كله أدبي السرد جغرافي المنهاج.
والعمري يشرح بنفسه منهج كتابه -في مقدمته- رابطًا بين المنهج والعنوان حين يقول: إنه قسمان "أولهما في الأرض وثانيهما في سكان الأرض، والقسم الأول منهما -أي الأرض- على نوعين: أولهما المسالك وثانيهما الممالك" ويمضي العالم الجليل يقدم