للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ففي مكة نجد مجاهد بن جبر وكان مولى ابن عباس، وعطاء بن رباح مولى فهر وكان أسود اللون، ولكن الإسلام الذي لا يعترف بالألوان ولا بالأحساب وضعه في مكانه الطبيعي وهو مكان العلماء، وأبا الزبير محمد بن مسلم بن تدرس مولى حكيم بن خزام، ولقد كان هؤلاء وهم من الموالي يجعلون العلم ميسرًا في مكة لكل طالب وكانوا مراكز إشعاع عقلي وإنعاش روحي.

فإذا نظرنا إلى الكوفة وجدنا على رأس علمائها سعيد بن جبير، وكان صاحب علم وفضل، وكان هو الآخر أسود اللون.

وكانت البصرة تتضوع علمًا وتزدان بالعلماء وكانت من أكثر الأمصار إشعاع ومنطلق تفكير وكان علماؤها أيضًا من الموالي، فمنهم محمد بن سيرين وكان أبوه من سبي ميسان وأمه صفية مولاة أبي بكر الصديق، هذا ولا يستطيع الخاطر إعفال الحسن البصري كبير علماء البصرة وعظيم مفكريها وسيد فقهائها وكان أبوه أيضًا من سبي ميسان ومولى لزيد بن ثابت.

فإذا ما انتقلنا إلى مصر وجدنا فيها يزيد بن حبيب مولى الأزد، وهو من أصل سوداني فأبوه من دنقله. ولقد كان يزيد مفتي أهل مصر وكبير علمائها، وهو أستاذ الليث بن سعد الإمام العالم الذي جرت بينه وبين الإمام مالك مساجلات ومكاتبات، وذهب بعض أهل الذكر إلى أن الليث كان أفقه من مالك ولكن ضيعه قومه، أي أن قومه في مصر لم يعطوه حقه، ولم يقبلوا على علمه الغزير إقبالهم على علم غيره من علماء المسلمين.

إنها ليست مصادفة أن يكون على رأس المفكرين المسلمين هذا العدد الضخم من العلماء الموالي، كما أنه ليس أيضًا من قبيل التصنع والافتعال، ولكن ذلك أمر طبيعي تمامًا؛ أن الذي يقبل على العلم من أبناء المسلمين يغض النظر عن عروبته أو مولويته -يحتل المكانة اللائقة به كواحد من أهل العلم، فالطريق مفتوح والفرصة سانحة لصاحبها أن يبرز ويلمع طالما كان لذلك أهلًا وبالاحترام جديرًا.

وتتسع الحركة العلمية الدينية بعد ذلك فتنشأ علوم القرآن من تفسير وتأويل وقراءات وتجويد، وتنشأ علوم الحديث أيضًا، ويستتبع ذلك ظهور علوم الفقه والتوحيد والأصول، وترتبط بها علوم اللغة من نحو وصرف، ثم علوم الأخبار وهو ما يمكن أن نسميه ببداية الحركة التاريخية الأدبية.

وإذن فقد كانت الحركة في أول أمرها مستهدفة تجلية العلوم الدينية من تفسير وحديث وعلوم قرآنية وفقه وتوحيد وأصول، وهذا استتبع بدوره العناية باللغة العربية وفروعها من رواية واشتقاق ونحو وشواهد من شعر ونثر، ثم كانت مادة الأخبار والنوادر والأسماء التي

<<  <   >  >>