إذاً في تلك الليلة أو في تلك الرحلة، إن لم تأت ثقيف فقد جاءت الجن وهم أحد الثقلين، والله تعالى يقول:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات:٥٦]، التقديم والتأخير في القرآن له دلالة فلماذا قدم الجن؟ {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ}[الذاريات:٥٦] الإنس لا شك أنهم أفضل من الجن، ولكن قدم الجن لماذا؟ تقدم ذكر الجن مراعاة للتقدم التاريخي، لأن الجن أسبق في الوجود بالخلقة من الإنس.
ولذلك الملائكة لما عرض الله عليهم خلق آدم وقال:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}[البقرة:٣٠] من أين أتوا بهذا؟ لما رأوا من الجنّ والبن قبل الإنس من الإفساد في الأرض، قالوا: قد جربنا ونظرنا؛ {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ}[البقرة:٣٠] فتقديم الجن هنا: لأنهم أسبق في الوجود.
إبليس كانوا يقولون له: عبد الله السجّاد، يقولون: ما من شبر في الأرض إلا وله فيه سجدة، لكن لما جاء آدم وجاء الحسد والتكبر، وكانت هذه سيئة، فترتبت عليها سيئة أكبر منها حتى طرد من رحمة الله.
إذاً: كان في تلك الرحلة والعودة منها: استجابة أحد الثقلين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وانطلاقهم دعاةً إلى الله، فأصبحت الرحلة كاسبة، لا كلفوه قتالاً ولا آذوه ولا شيء، بل إنه صلى الله عليه وسلم أخبر بليلة الجن فقال لصحبه:(الجن أحسن منكم استماعاً)، لأنه لما قرأ عليهم سورة الرحمن، كان كلما قرأ:(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) قالوا: ولا بشيء من آلاء ربنا نكذب، ولما قرأها على المسلمين كانوا ساكتين، فقال لهم:(الجن أحسن منكم)، فهذه رحلة موفقة.