[من معجزات الأنبياء صلى الله عليهم وسلم]
وكما وقع في هذا المسجد في المدينة عندما جاء الأعرابي يستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستسقي لهم ربه، فقال: ادع لنا ربك، ماتت البهائم، وجف الضرع إلى آخر ما قال، فيرفع صلى الله عليه وسلم يديه وهو على المنبر في خطبة الجمعة، ويطلب من الله السقيا، يقول الراوي: فما بيننا وبين سلع من دار ولا بيت.
انظروا تخطيط المدينة كيف كان! فقد كان جبل سلع عند الباب الشامي، من المسجد إلى جبل سلع لم يكن يوجد بيوت.
فنشأت سحابة من وراء سلع قدر الترس، والترس مستدير قطره تقريباً (٧٠%)، يتترس به الفارس ويتقي به ضربة الخصم، فنشأت سحابة كالترس صغيرة من وراء جل سلع، وكان وراء سلع أرض حارة قاحلة ولا يوجد بحر وراء سلع، وهذه نشأت من وراء سلع، حتى استقلت في سماء المدينة وانتشرت، وكانت مثل الترس فما الذي زاده؟ إنه الله سبحانه {وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} [الرعد:١٢]، ينشئه إنشاءً من العدم، فأمطرت قال الراوي: (فوالله! ما رأينا الشمس سبتاً)، السبت كناية عن أسبوع، أي: بقت هذه السحابة التي كانت قدر الترس وانتشرت أسبوعاً وهي تمطر، لا نريد أن نتكلم مع أصحاب الجغرافيا، وأصحاب تبخير البحار، وتبخير وتكاثف الماء، فالله الذي يسوقه حيث شاء إلى بلد ميت فيخرج به نباتاً فيحيي به الأرض بعد موتها.
ثم جاء الأعرابي يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يمسك السحاب عن المطر، يا سبحان الله! إن عطشنا اشتكينا، وإن شبعنا وارتوينا اشتكينا، هكذا الإنسان؛ فيرفع صلى الله عليه وسلم يديه ويسأل الله أن يمسكها عنهم، فتمسك ويخرجون يمشون في الشمس ببركة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي سأل الله فأجابه.
نرجع إلى العلاء بن الحضرمي، قال: إن الله قادر أن يريكم آية في البحر كما أراكم آية في البر، فذكرهم واستدل لهم على قدرة الله بما وقع لهم في البر، فكانت القدرة تخطط بمقدمة لكي تعطيهم البصيرة، والنموذج.
قالوا: توكل على الله ونحن معك؛ لأن الذي أنبع لنا الماء في الصحراء قادر على أن يجعل البحر أرضاً يبساً.
فيتقدم ويخاطب البحر ويرجع إلى الله: (أيها البحر! إنك تجري بأمر الله، ونحن جند نقاتل في سبيل الله، عزمت عليك لتجمدن لنعبر عليك حتى نقاتل أعداء الله، ثم قال لهم: امضوا باسم الله على بركة الله.
يقول ابن كثير: ما ترجّل فارس ولا احتفى منتعل، فالراكب سار على فرسه، والراجل سار على رجليه، أقول: ليس ذلك على بساط الريح ولا على بساط البحر، بل على بساط القدرة، وذهبوا وقاتلوا وانتصروا وفتح الله عليهم وعادوا غانمين.
بعدما رجعوا أصيب قائدهم العلاء ومات، فحفروا له ودفنوه، وبعدما دفنوه إذا بقوم من أهل تلك الأرض أتوهم بعدما نفضوا أيديهم فقالوا لهم: إن هذا الذي دفنتموه إن كان يعزّ عليكم لا تتركوه هنا، إن هذه الأرض تلفظ موتاها! وهذا أمر عجيب، الأرض تلفظ موتاها، والأرض لها طبيعة وإدراك، فهناك أشجار تمتص الدماء، وهناك أشجار تأكل الحشرات، فهؤلاء قالوا: إن طبيعة هذه الأرض أنها تلفظ الموتى، فهل يوجد جيولوجي يستطيع أن يذكر لنا السبب؟ فقالوا: ما حق ابن الحضرمي أن نتركه نهباً للسباع، فعزموا على نبش قبره ونقله إلى أرض لا تلفظ الموتى، فرجعوا إلى قبره، فنبشوه القبر فلم يجدوا فيه أحداً، ووجدوا القبر مد البصر.
ولا نقول: إن هذه تجربة لتصديق حديث رسول الله، فإن الصادق المصدوق لا يحتاج إخباره إلى التجارب، فقد يخطئ الشخص في إجراء التجربة، وقد يخطئ في مقاييسه وموازينه، وهذا من باب التقريب لفهم حديث النبي عليه الصلاة والسلام، الذي لا ينطق عن الهوى.
إذاً نرجع إلى موسى فقد رآه النبي عليه الصلاة والسلام قائماً في قبره، إذاً: قبر موسى متسع يقوم فيه وينام.
سعيد بن المسيب من خيرة وأفاضل كبار التابعين، يقولون في ترجمته: مضت عليه أربعون سنة ما نظر في قفا رجل في الصلاة؛ فقد كان يصلي في الصف الأول: وعشرون سنة لم يؤذن المؤذن للصلوات الخمس إلا وهو في المسجد، فلم يكن حمامة من حمائم المسجد، بل قل إن شئت: طوبة من طوب المسجد، بل ركناً من أركان المسجد.
في وقعة الحرة -إي والله إنها كانت حرة شديدة وشديدة الحرارة- خلت المدينة وتعطلت الصلوات في المسجد النبوي عن أذان وإقامة ثلاثة أيام إلا من سعيد بن المسيب، فقد كان يأتي في أوقات الصلوات، كما في شرح العقيدة الواسطية لـ ابن الرشيد وابن تيمية وغيرهم يقولون: إنه سئل: كيف تصلي؟ قال: كنت أسمع الأذان من داخل الحجرة! فمن يؤذن هناك؟ وهل هذا نخضعه للعقل؟ لا؛ لأنه أمر خارق للعادة، وما كان معجزة لنبي فهو فوق العادة، وما كان كرامة لولي فهو تابع لمعجزة النبي، لأن هذا الولي الذي جاءت الكرامة على يده ما جرت لشعوذة ولا لمعصية، إنما جرت على يده لأنه على طريق صاحب المعجزة.
إذاً: صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء في بيت المقدس، ثم عرج به إلى السماوات وإلى الملأ الأعلى، حتى وصل به جبريل عليه السلام إلى سدرة المنتهى، وقال: يا محمد هذا منتهاي فتقدم، ذاك الموقف ليس لأحد أن يجتهد فيه، ولا أن يقيس عليه، إنما هو أمر خارق للعادة فوق المعقول، ويقف كل إنسان على المنقول فيه.
تقدم صلى الله عليه وسلم، وكان كما قال سبحانه: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:٩ - ١١] وأوتي صلى الله عليه وسلم هناك الصلوات الخمس وخواتيم سورة البقرة، وسورة الفاتحة ثم رجع، فلما رجع لقيه موسى وقال: بم رجعت يا محمد؟ قال: بخمسين صلاة.
قال: لقد بلوت بني إسرائيل قبلك بأقل من ذلك وهم أقوى أبداناً فعجزوا، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فالتفت الرسول إلى جبريل كأنه يستشيره قال: نعم ارجع، فرجع وخفف عنه من خمس إلى خمس حتى صار الخمسون خمساً.
هناك {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء:١]، فقد رأى المصطفى صلى الله عليه وسلم بعيني رأسه وببصره لا ببصيرته، الجنة وما فيها من نعيم، ورأى النار وما فيها من جحيم عياذاً بالله، ورأى نتائج أعمال الأمة من عملٍ صالح وعمل طالح، ويدخل الجنة ويحدثنا عن أحداثها ومشاهدها، ويذكر بعض فضائل عمر وزيد بن حارثة وبلال وأشياء عديدة.
وقد ساق أخبار الإسراء والمعراج ابن كثير في تاريخه وتفسيره، وذكر حوالي أربعين حديثاً فيما رأى صلى الله عليه وسلم في تلك الرحلة، والذي رآه صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة هو منهج عملي لنتائج الأعمال من تشريع وأخلاق وتوجيه وعقائد، ثم رجع إلى الأرض.
أقول: أيها الأخوة! الذي شاهد الجنة وما فيها ورأى نتائج أعمال الأمة، يزداد يقيناً بأن دعوته ماضية، وأن رسالته منطلقة وكاملة ونتائجها أمامها، فحينما يرجع إلى الناس فإنه يدعوهم وكله ثقة ويقين بما وعده الله.
ولهذا لما تآمروا على قتله ليلة الهجرة خرج في ظلال عشرة سيوف ولم يبال بها، وأخذ التراب ووضعه على رءوسهم، لأنه مطمئن مستيقن بنصر الله، ولما كان في الغار وأبو بكر خائف يقول: (لو نظر أحدهم أسفل قدميه لأبصرنا فيقول: ما بالك باثنين الله ثالثهما) فكان في غاية الطمأنينة، وفي غاية اليقين، على ما سيأتي إن شاء الله.
ثم يرجع وما بين بيت المقدس إلى مكة يعطيه الله الوثائق والمستندات التي يقدمها للمنكرين في تلك الرحلة، يقول: خذ هذا الإثبات، وهذه الأدلة على تلك الرحلة الصادقة، فمن ذلك: أنه مر على قوم نيام، معهم ماء في إناء فيأخذ الماء ويشربه ويضع الإناء ويمضي.
ويمر على قافلة يتقدمها جمل أورق عليه غرارتان صفتهما كذا.
ثم يأتي وقبل أن يطلع الصبح، وتخرج أم هانئ فتجده جالساً مستغرقاً في التفكير فتقول له: (بم تفكر يا رسول الله، قال: لقد أُسري بي هذه الليلة إلى بيت المقدس، وعرج بي إلى الملأ الأعلى، وعدت في صبيحة يومي) أو قال: (أرأيت مبيتي هذا عندك! لقد عرج بي إلى السماء، قالت: يا رسول الله! لا تحدث به القوم فيكذبوك، فقال عليه الصلاة والسلام: بل لأحدثن به).
ويخرج من عندها إلى البيت الحرام، ويجلس منعزلاً كجلسته عند أم هانئ، فمر عليه أبو جهل فقال له: (يا محمد هل من جديد؟ -من باب الاستهزاء- قال: نعم.
قال: وما ذاك؟ قال: قد أُسري بي الليلة إلى بيت المقدس وعرج بي وعدت في الصباح، فقام أبو جهل يصفق ويصفر، وقال: أتقول هذا القول إذا دعوت قومك إليك؟ قال: نعم.
فقال أبو جهل: هلموا يا قريش فاسمعوا من محمد ما يقول، وجاءوا إليه يهرعون، فأعاد عليهم المقالة).
هذا وبالله التوفيق، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.