الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فقد مضى بنا الحديث عن الهجرة من بيان أسبابها ومقدماتها، وبدأنا في طريقتها ومنهجها وخطتها، وتقدم ما كان من اعتزام أبي بكر رضي الله تعالى عنه على الهجرة مراراً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمهله ويقول:(لعل الله يجعل لك رفيقاً)، وكان يطمع أبو بكر في صحبة النبي صلى الله عليه وسلم.
وذكرنا ما كان من السرية والتخطيط لإنجاح هذا الحدث، وأن من ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أذن له في الهجرة جاء إلى بيت أبي بكر وقت القيلولة، ولم يكن يأتي في مثل ذلك الوقت، وبعد أن أخبره وشاوره معه خرج من خوخة خلف البيت، ولم يخرج من الباب العام، وكذلك: مبيت علي رضي الله تعالى عنه في فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسجيه ببرده، وأيضاً: اتفاق أبي بكر رضي الله تعالى عنه مع ولده عبد الله أن يكون في مكة نهاراً يستمع أخبار الناس ويأتي إليهم في الغار ليلاً يخبرهم به، ويأتي بعد ذلك الراعي عامر بن فهيرة ويمشي بالغنم على أثر عبد الله فيمحو الأثر؛ لئلا يستهدي به الأعداء إلى الغار.
ثم خرج صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر إلى الغار، واستبرأ أبو بكر الغار في التحفظ والخوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الطريق كان تارة يمشي أمامه، وتارة يمشي وراءه، وتارة عن يمينه، وتارة عن شماله، فانتبه إليه صلى الله عليه وسلم وقال: ما بالك يا أبا بكر هكذا؟ فيقول: يا رسول الله! أتذكر الرصد فأكون أمامك، وأتذكر الطلب فأكون من ورائك، وأتذكر العدو فأكون عن يمينك أو عن شمالك، فيقول صلى الله عليه وسلم ويبين فضل الصديق رضي الله تعالى عنه:(أتود يا أبا بكر إن يكن شيء يكون فيك أنت؟ قال: بلى فداك أبي وأمي يا رسول الله، إن أهلك أهلك وحدي، أما أنت فمعك الرسالة).
وهكذا يمضي الصديق في طريقه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا ما وصلا الغار يطلب من رسول الله أن يتأنى حتى يسبق أبو بكر إلى الغار ليستبرئه، مخافة أن يكون فيه شيء يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وانتهينا إلى دخول الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه الغار، ومكثا فيه ثلاثة أيام، وقلنا: إن الحديث على أحداث الغار يتناول من كان خارج الغار من الطالبين، ومن كان داخل الغار من المطلوبين، أما من كان خارج الغار فإن الله قد ردهم بنسج العنكبوت وبيض الحمام ونبات أخضر متدل، وانتهى أمرهم.
وهناك الصديق رضي الله عنه كان يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم:(والله يا رسول الله لو نظر أحدهم أسفل نعليه لأبصرنا)، فكان الصديق خائفاً بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يطمئنه غاية الطمأنينة ويقول:(يا أبا بكر! ما بالك باثنين الله ثالثهما!) وانتهت مدة الغار ثلاثة أيام، وهي كما يقول العلماء: مدة الضيافة، ولكأنهما كانا في ضيافة الرحمن.