هجرة المؤمنين هرباً من إيذاء المشركين
أيضاً من أسباب الهجرة ودوافعها في الإسلام: إيذاء المشركين للمؤمنين، وكلنا يعلم ما كان عليه بلال وصهيب وعمار وآل ياسر: (صبراً آل ياسر، فإن موعدكم الجنة).
بلال يؤتى به في الصحراء في القائلة، في شدة الحر على الرمضاء، لا تقدر أنت أن تمسها بقدمك، ويجرد هو ويطرح عليها، ويؤتى بصخرة حارة وتلقى على بطنه، ويقال له: ارجع عن دين محمد، فيقول: (أحد أحد).
ما الذي كان يقيه هذا الحر؟ ويحمل عنه هذه الصخرة؟ إيمانه بالله ويقينه، كما قال هرقل لـ أبي سفيان: أيرجع أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه؟ قال: لا، قال: هكذا بشاشة الإيمان إذا خالطت القلوب.
أي: الإيمان إذا خالط القلوب فلا يمكن أن ينزع، ولا تقدر أن تخرجه.
فاشتد إيذاء المشركين للمسلمين، حتى الرسول صلى الله عليه وسلم ما سلم من إيذائهم، فقد كانوا يعتدون عليه، ويأتي أبو بكر رضي الله تعالى عنه ويدافع عنه، وفي بعض المرات جاء أبو بكر يقول: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر:٢٨]، فتوجهوا إلى أبي بكر وأخذوا يضربونه حتى صرع، وأغمي عليه من كثرة الضرب الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي في ظل الكعبة، وعندما يسجد يأتي أشقاهم ويقول: إن بني فلان نحروا جزوراً اليوم فليذهب أحدكم ويأتي بسلا الجزور ويضعه بين كتفيه صلى الله عليه وسلم وهو ساجد.
وفي بعض كتب السيرة: أنه وضع قدمه على رقبته وهو ساجد، والمولى يمهله، ويذهب الذاهب إلى فاطمة رضي الله تعالى عنها، ويخبرها، وتأتي فترفع الأذى عن كتفيه.
عثمان بن مظعون كان في جوار رجل من سادات المشركين، فكان يمشي في مكة ويأتي إلى الكعبة، فيرى إخوانه المستضعفين يعذبون من قبل صناديد قريش، فحز هذا في نفسه، قال: أنا أنعم بالطمأنينة والأمن بجوار رجل مشرك وإخواني يعذبون؟! انظروا المروءة والإحساس: أنا آمن وأنعم في أمن رجل مشرك وإخواني في العقيدة يعذبون! ما دام أننا إخوان في العقيدة فيجب أن نكون إخواناً في كل شيء، فذهب للذي أجاره وقال: يا فلان جزيت خيراً، جئت أرد عليك جوارك، قال: لماذا يا ابن أخي، هل آذاك أحد؟ هل تعرض لك أحد؟ قال: لا، ولكني رأيت نفسي أنعم في جوارك وإخواني يعذبون فأردت أن أكون معهم، قال: يا ابن أخي! إن كنت تريد أن ترد علي جواري فائت علانية في نادي قريش كما أجرتك علانية في نادي قريش، فجاءه في نادي قريش وقال: يا أبا فلان! وفت ذمتك؛ إنك لوفي كريم، ولكني أريد أن أرد إليك جوارك، قال: يا ابن أخي إنك في مأمن، وما السبب؟ قال: أردت أن أكون مثل إخواني يصيبني ما يصيبهم، قال: قبلت.
وخرج من عنده، ويمر بناد من أندية قريش وفيهم لبيد الشاعر المعروف ينشدهم الشعر فجلس، فقال لبيد كلمته المشهورة: ألا إن كل شيء ما خلا الله باطل فقالوا: صدقت.
ثم أكمل البيت: وكل نعيم لا محالة زائل قال له: كذبت، نعيم الجنة لا يزول، الشاعر يقول ذلك على مقتضى قياس الدنيا؛ لأنه لا يؤمن بالجنة ولا بنعيمها، فالشاعر صادق في معتقده، والناقد للشعر أو للمقالة أو للكلمة يجب أن يراعي جميع الملابسات من كل جهة، ولكن الذي رد عليه لم ينظر من نفس الزاوية وبنفس الفكر الذي نظر به الشاعر، بل بمنظار جديد ألا وهو منظار الإيمان باليوم الآخر؛ فلما رد عليه وقال: كذبت! قطع الشاعر الشعر وقال: ما هذا يا معشر قريش! والله ما سبق أن أحداً رد على قولي قبل اليوم، وجعلها إهانة كبيرة جداً في حقه.
وكانت الشعراء في السابق لهم الكلمة، وكأنه وزير الإعلام في الدولة، وكانت القبيلة تفخر بنبوغ شاعر أو ظهور فارس، لأن هذا يدافع عنها بالكلمة، وهذا يدافع عنها بالقوة، فيحميانها باللسان والسنان.
فقام رجل حمية ولطم عثمان رضي الله عنه على عينه فخضرها، وذلك لأن الكدمة تجعل الدم يحتبس تحت الجلد، فإذا احتبس الدم تحت الجلد اخضر الجلد، ثم بعد زمن يتشرب الجلد الدم، وكان الذي أجاره موجوداً فقال: والله يا ابن أخي لقد كنت في غنىً عن هذا، قال: لا والله! لعيني الأخرى في حاجة لمثل ما أصاب أختها! ما هؤلاء الرجال؟! يضرب على عينه ومجيره يقول: (لقد كنت في غنىً عن هذا، فيقول له: لا، إن عيني السليمة في حاجة لمثل ما أصاب هذه)، وذلك لأنه يعلم أنه أوذي في سبيل الله.
فوقع رضي الله عنه في الشدة والتعذيب مع المسلمين، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كان في جوار عمه أبي طالب، وقد أعلنها: والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفيناً فكان عنده من يحميه، وأما المسلمون فلم يكن عندهم من يحميهم، فأشفق عليهم ووجههم للهجرة إلى الحبشة، وسيأتي الحديث عنها إجمالاً.