[نزول النبي صلى الله عليه وسلم على أبي أيوب الأنصاري]
وصلنا إلى المكان، والمكان فيه عدة بيوت، منها بيت أبي أيوب الأنصاري، وكان رجلاً عاقلاً ما زاحم الناس، بل ذهبب إلى الرحل وأدخله إلى بيته، فقال الرسول: (أين رحلي؟ قالوا: احتمله أبو أيوب إلى بيته، فقال: المرء مع رحله).
هنا موقفان: الأوس والخزرج استمروا في حرب لمدة مائة سنة، وما انتهت إلا قبل مجيء رسول الله بخمس سنوات، وكانا كفرسي رهان يتسابقان فيما يفعلانه لرسول الله، وجاء رسول الله على بيعة منهما معاً عند العقبة، فعندما يأتي المدينة وهما متنافسان عند من ينزل؟ إن نزل عند هؤلاء قالوا: والله آثرهم علينا، وإن نزل عند هؤلاء قالوا: والله آثرهم من أول الأمر علينا، فيوجد الصدع لأول لحظة، فكان الأفضل أن يترك الاختيار للمأمورة، وإن كان أردوا أن يعتبوا فليعتبوا على الناقة وهو يقول: والله أنا تركت أمري لله، والله ساق المأمورة، وهي التي نزلت حيث أمرت، فطابت النفوس بذلك.
ثم المكان الذي نزل فيه به بيوت متجاورة، ينزل عند من منهم؟ لو اختار بيتاً على بيوت الحي لأثار أيضاً تساؤلاً: لماذا اختار بيت فلان؟ لكن عندما تكون من أحدهم بدون أن يشعر رسول الله ولا يشعر الجماعة ويلتفت صلى الله عليه وسلم: (أين رحلي؟ ثم قال: المرء مع رحله) من هو هذا؟ إنه أبو أيوب، وكان اختيار بيت أبي أيوب من عند رسول الله؟ وهل حابى وجامل فيه على حساب الآخرين؟ لا.
وينكشف الغيب عن سر وعن معجزة أخرى، ما هو سر بيت أبي أيوب؟ تاريخ بيت أبي أيوب يرجع إلى زمن ما قبل مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك حين جاء تبع من اليمن واستولى على المدينة في طريقه إلى غزو إفريقيا، وخلف ولده ملكاً عليها، وفي يوم من الأيام ذهب هذا الولد وصعد النخلة ليجني منها، فجاء صاحبها وضربه بالمنجل فقتله، وقال: إنما الثمر لمن أبّر.
فلما رجع الملك وجد ولده قتيلاً، فأراد أن ينتقم لولده، فقاتل أهل المدينة فلم يغلبهم، وحاصرها فاستمر الحصار طويلاً، حتى نفد زاد الملك والجيش، فقال أهل المدينة فيما بينهم: والله ما أنصفنا عدونا! نقاتلهم حتى إذا أتى الليل أوينا إلى بيوتنا وزوجاتنا وطعامنا وفراشنا، وعدونا يبيت طاوياً جائعاً ونصبح نقاتله، أخرجوا إلى الجيش طعامهم، فقال الملك: واعجبا لأهل هذه القرية، نقاتلهم نهاراً ويقروننا ليلاً.
إذاً: الأصالة في المدينة من قبل الهجرة، واستمرت تلك الأصالة حتى قدم إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا بهم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:٩].
فقال الملك: إن أمر هذه البلدة لعجيب، فخرج إليه حبران، وقالوا: ما تريد يا أيها الملك من هذه القرية؟ قال: أريد أن أهدمها، قالا: لن تقدر، ولن تسلط عليها؛ لأنها مهاجر آخر نبي يأتي إليها، قال: وبم تشيران عليّ؟ قالا: أن تبني له بيتاً إذا ما نزل فيه، فبنى البيت وكتب كتاباً، وأعطاه لأحد أبناء الحبرين، وكان من نسلهما أبو أيوب الأنصاري، فجاء النبي ونزل في البيت الذي بناه الملك لينزل فيه النبي إذا جاء المدينة.
ولعلنا نقف عند بيت أبي أيوب الأنصاري، ولنا مجلس آخر إن شاء الله نبدأ فيه بنتائج الهجرة، وكيف قابل النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة والهجرة المجتمع المدني -إن صحت هذه التسمية- وبالله تعالى التوفيق حديث الهجرة حديث عميق، ودروسها دروس عظيمة؛ لأنها كما أسلفنا بمثابة الجسر الذي يربط بين الماضي والحاضر، والذي ينقل من الجاهلية إلى الإسلام ومن الجهل إلى العرفان، والحديث عن الهجرة له جوانب نحددها، وأرجو من كل طالب علم أن يمعن النظر في تلك الجوانب ويتأمل ترابط بعضها ببعض.
أولاً: أن الهجرة سنة الأنبياء، والهجرة هي وسيلة انتشار الدعوة ووصولها إلى الأمم، فالخليل إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، هاجر إلى مصر ثم إلى الحجاز، ثم قال: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:٩٩]، ثم هجَّر من ذريته هاجر وإسماعيل، وكان بهذا التهجير ميلاد أمة جديدة نقلت دعوة من أرض النبوات بالشام، وعن أمة بني إسرائيل إلى أرض الحرمين الأمة العربية.
وموسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام هاجر، وخرج مرتين، المرة الأولى حين أتاه الآتي وقال: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص:٢٠]، فخرج خائفاً يترقب، ثم بعد ذلك رجع، وتحمل الرسالة وجاء إلى فرعون، وخرج مهاجراً ببني إسرائيل.
ولوط عليه السلام أيضاً خرج وهاجر وترك القرية وكان من أمرها ما كان.
فهجرة نبينا صلى الله عليه وسلم ليست بدعاً وليست جديدة، بل هي على سنن الرسل من قبله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.