[صفات النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في القرآن]
إن الله ذكره باسمه فقال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:٢٩] فالرسالة اصطفاء واختيار، والله قد اصطفاه من قبل أن يولد ويولد آباؤه، وبشر به عيسى بني إسرائيل من قبل، ولكن الذين معه أفراد في الأمة، ليسوا رسلاً ولا أنبياء، ولكن القرآن يأتي بذكرهم في معرض التكريم، وبيان عظيم الشأن ورفعة المكانة: {وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح:٢٩].
(محمد رسول الله) إخبار من الله بصحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم يتناول من معه، بعض العلماء يقول: تلك المعية (معه) أي: في الحديبية، أو معه في عصره من عموم الصحابة، أو معه على الإسلام أي: أن المعية هنا إما عامة أو خاصة أو أخص.
عامة: في كل مسلم مع رسول الله على الإسلام، خاصة: في الصحابة الذين في عصره، أخص من ذلك كله: الذين شهدوا الحديبية؛ وكل ذلك محتمل.
يهمنا (والذين معه) ما شأنهم؟ هذه الطبقة التي اختارها الله لتكون مع رسوله، كما جاء في بعض الآثار في كنز العمال أو في غيره: إن الله اصطفى رسوله واصطفى معه أصحابه.
{وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:٢٩] الشدة والرحمة متغايران ومتنافيان، فحيثما وجدت الشدة فلا رحمة، وحيثما وجدت الرحمة فلا شدة، ولكن يقول علماء البحث والمناظرة: إذا اختلفت الجهة -انفكت الجهة- وتغاير المتعلق فلا مانع، والشدة والرحمة ليستا متوجهتين على متعلق واحد، وإنما على متعلقين متغايرين (أشداء) على الكفار، (رحماء) على المؤمنين، (رحماء بينهم).
إذاً: هم لهم جانبان، والجانبان لهما متعلقان: جانبٌ خارجي: علاقتهم بالكفار الشدة: {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:١٢٣].
وجانب داخلي: علاقته فيما بينهم رحماء، وفي الحديث: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا) فيجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذين الوصفين بهذين الاعتبارين المتغايرين، ولذا قال في الموطن الثاني: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:٥٤]، فهم على الكافرين أعزة بقوة لا يلينون معهم، ولا يخضعون إليهم، ولكن فيما بينهم أذلة، وليس معنى الذل الهوان! بل كما قال تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:٢٤] لأن الرحمة والرأفة تعتبر مدحاً في حق الشخص، وبعض الناس ربما يعتبر لين بعض الأشخاص ضعفاً؛ لأن الرحمة إذا كانت عن قوة تكون مدحاً، أما إذا كانت عن خوف ربما لو تنازل عن حقه يكون غصباً عنه.
{أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:٥٤] كأنه يتلطف مع المؤمن ويعامله في صورة المتذلل له، وذلك مبالغة في إكرامه والتلطف به، ثم يصفهم بوصفهم: {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} [الفتح:٢٩] ما قال: راكعين ساجدين، باسم الفاعل، قال: (رُكّعاً) (سُجّداً) على وزن (فُعّلْ) وهي من صيغ المبالغة، كأنه يصفهم بإقام الصلاة المفروضة وزيادة، يصلون النوافل مع الفرائض: {رُكَّعًا سُجَّدًا} [الفتح:٢٩].
وبين حقيقة مقصدهم وشهد الله لهم بأنهم صادقون في ركوعهم وسجودهم: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح:٢٩] وينبه العلماء هنا في قوله: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح:٢٩] على أنه ما قال: يبتغون أجراً من الله؛ لأن الذي يبتغي الأجر يعتد ويحتسب بعمله، يقول: أنا عملت لك عملاً فأعطني أجرة؛ لكن عندما يأتي ويقول: أعطني من فضلك، هل يعتد لنفسه عندك بعمل أم يعتبرك متفضلاً عليه بما تعطيه؟! إنما يطلبك من واسع فضلك وإحسانك، وهكذا المؤمن يقدم الطاعة والعبادة لله، ويبتغي فضل الله لا يحتسب بعمل يعده على الله يطالبه بمقتضاه، فانظر الدقة واللطافة في أسلوب القرآن الكريم! {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح:٢٩] يعني: يعملون لمرضات الله، وإن كان كل إنسان يرغب في الأجر، ولكن فرق بين أن تقول: أعطني أجري وقد ركعت وسجدت، وبين أن تقول: أنا أديت الواجب الذي فرضته عليّ وأنا أسألك من فضلك.
وهناك شفافية! وإعجاز في كتاب الله: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:٢٩] السيماء: العلامة، والسيماء من الوسم، والوسم عند العرب: هو الوسم الذي يميز إبل القبيلة عن إبل قبيلة أخرى، وكذلك الاسم للإنسان وللبلد وللكتاب ولغيره علامة تميزه عن غيره، (علي ومحمد وحسن وحسين) هذه أسماء تميز هذا عن هذا، وإلا فالكل إنسان بعينين وفم سواء، فالأسماء هي التي تميز الأشخاص، والكل من السمو والارتفاع، بل اسمك شيء سما وعلا، أي: علا صاحبه، مثلما تأتي بلوحة وتعلقها على المحل، فإنها تميز هذا المحل عن ذاك المحل، وأنت علقتها فوق ما رميتها في الأرض.
سيماهم يعني: علاماتهم، وهل المراد: بالسيماء في وجوههم كما يظن بعض الجهلة أنه كلحة أو شيء في الجبين مثل الكلع، كما يقولون: تكلع البعير؟ لا، إنما هي بشاشة، ونور، وحلاوة، وارتياح، كما قال بعض العلماء: الولي لله من إذا رأيته ذكرك بالله، لأنك: تجد على وجهه سماحة وارتياحاً، وكما جاء: (من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار)، فالسيما إنما هي سماحةٌ وطلاقة ونور في الوجه يعلوه لما كان منهم من كثرة الركوع والسجود.
{ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} [الفتح:٢٩] التوراة أنزلت على نبي الله موسى، وهو نبي بني إسرائيل، فأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين معه مثلهم في التوراة ينزل وحياً على موسى فيكتبه الله في الألواح، ويقرؤه بنو إسرائيل؛ بأن أصحاب محمد الذين سيكونون معه هذه صفاتهم، فأي منزلة أعلى من هذه؟! ثم يأتي مثل آخر: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ} [الفتح:٢٩] والإنجيل أنزل على عيسى عليه السلام، وعيسى من أنبياء بني إسرائيل.
قال: {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح:٢٩] وهذه صورة عجيبة جداً! فالحبة تدفن، ثم يطلع العود الأول، ثم يرتفع من الأرض قليلاً، وقبل أن ينضج تخرج منه عيدان صغار، هذه الأعواد الصغار تلتف حول العود الأصلي، فيؤازر بعضها بعضاً، ويلتف هذا الزرع بعضه ببعض حتى يستوي على سوقه، ومع التفافه يكون في نظارته وحسنه وروائه ونمائه: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} [الفتح:٢٩] لأن الزراع هم الذين يعرفون حسن الزرع وجماله ونجاحه، ثم يبين: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:٢٩] أي: في التفافهم وتآزرهم وتعاونهم وترابطهم.
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:٢٩] وهذا تفضل من الله.