[الربط بين أحداث السيرة]
من واجب أحداث السيرة والتاريخ: الربط بين الصور المتقاربة، أو الجمع بين المتماثلات، ففي رحلة الإسراء مر صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وببيت لحم وغيرها إلى بيت المقدس، وبين الهجرة والإسراء سنة وبضعة أشهر.
ففي الإسراء يأتي البراق ويأخذه من مكة إلى بيت المقدس في سرعة كسرعة الضوء، وبرفقة جبريل، بعد هذا جاءت الهجرة، والهجرة: انتقال الدعوة إلى موطن جديد، وكان الصديق رضي الله تعالى عنه تارة يمشي أمام رسول الله، وتارة من ورائه، وتارة يميناً، وتارة يساراً، فرأى منه رسول الله هذه الحالة فقال: (يا أبا بكر ما لي أراك تارة أمامي، وتارة ورائي، وتارة عن يميني، وتارة عن شمالي؟) أي: لماذا أنت غير مستقر على حالة واحدة؟ وانظر الفداء الصحيح، وانظر إلى الإيمان بالله؛ قال: (أتذكر الرصد فأكون أمامك) أي أخاف أن يكون هناك من يرصد الطريق فأكون أنا أمامه، (وأتذكر الطلب) أي: من يلحقهم من روائهم، (فأكون خلفك)، وكذلك عن اليمين واليسار.
ولذا يجب على ولاة الأمور والقادة عند الأمور العظيمة الخطيرة أن يأخذوا أهبتهم لها، وأن يعدوا العدة، ولا يكونوا غافلين، فقال صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر! أتود لو كان شيء أن يكون فيك دوني؟ قال: بلى يا رسول الله أريد ذلك!)، حقاً لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان الأمة لرجح عليها، وقال معللاً لذلك: (يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، إن أصب أصب وحدي -أي: أنا فرد من الناس- أما أنت فصاحب الرسالة) أي: لست فرداً من الأمة، بل أنت تحمل رسالة الله إلى الخلق، إذاً: من واجب الخلق جميعاً أن يفدوا رسول الله بأنفسهم وأموالهم.
خرج رسول الله، ودخل الغار، ومكث فيه ثلاثة أيام، بينما في الإسراء والمعراج كان بصحبة جبريل، فذهب في لحظات ثم رجع، لماذا لم يأت البراق في رحلة الهجرة كما جاء في حلة الإسراء والمعراج.
فتلك رحلة سماوية وهذه رحلة أرضية، فكان الإسراء بالبراق وبصحبة جبريل، والهجرة كانت على الأقدام وعلى الرواحل، وباختفاء وبدخول إلى الغار، وبقيادة رجل مشرك، وهو عبد الله بن أريقط وهو على دين قومه.
أما المغايرة فلأن رحلة الإسراء كانت رحلة تكريم، ورحلة اطلاع {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء:١]، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء:١] فهي رحلة محاطة بالبركة والخير (لِنُرِيَهُ)، وهذه الرؤية البصرية لها آثارها فيما بعد على ما سيظهر في درس الهجرة.
في الهجرة تشريع لكل الدعاة المسلمين، ولكل المصلحين أن يأخذوا الأهبة، ويعدوا العدة، ويلتزموا هذا المنهج، أما حدث الإسراء فكان فوق العادة، وحدث العادة في قانون البشر وفي استطاعة المخلوق أن يصدقه وأن ينفذه.
ثم ننبه على قضية قد يثيرها بعض الناس وهي: الاستعانة بالكافر، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق ومكة مليئة بالرجال الخبيرين بالصحراء، ولكن لما لم يوجد مثل هذا الرجل المشرك خريتاً في الطريق أميناً على السر، فاستأجره رسول الله؛ لأنهم كانوا يخفون الهجرة، فائتمنوه على الرواحل، وواعدوه بعد ثلاثة أيام، فأتاهم إلى الغار، وانطلقوا على بركة الله.
وكان والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول: الاستعانة بالكافر فيما لا علاقة له بالدين والتشريع والحلال والحرام لا بأس به، ما دام يحقق مصلحة للمسلمين، والعالم الإسلامي كله بأجمعه من شرقه إلى غربه، قاصيه ودانيه إلا من شاء الله، حينما يأتي موسم الحج، يأتون في البواخر والطائرات، ويقودها رجال غير مسلمين من جهة شركة فرنسية، أو روسية، أو إنجليزية، ولا مانع أن يكون قائد الطائرة الذي يوصلنا إلى الحرمين كافراً، ولا نقول: نحن لا نسافر بالطائرة إلا أن يكون الطيار مسلماً وموحداً وسنياً وسلفياً، فما علينا من هذا، وهذه المسألة يأتي التعليق عليها في محلها إن شاء الله.