[إكرام الأنصار وأبي أيوب لرسول الله صلى الله عليه وسلم]
نرجع إلى بيت أبي أيوب ونزول النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك البيت الذي بناه ذلك الملك لينزل فيه نبي آخر الزمان إذا هاجر إلى المدينة.
ومن هنا يقول بعض العلماء تعليقاً على ذلك: نزل في بيته؛ ولم يكن لأحد منة عليه، وقد شاهدنا في أول الهجرة: لما قدَّم أبو بكر رضي الله عنه الرواحل ماذا قال رسول الله؟ قال: (لا أركب بعيراً ليس لي، قال: هو لك يا رسول الله، قال: لا.
الثمن، بكم اشتريتهما؟ قال: بثمانمائة، قال: هو عليَّ بثمنه)، فلم يقبل إلا مثامنة.
ثم لما أراد بناء المسجد -على ما سيأتي أمره أيضاً تتمةً لهذه الجزئية- كانت الأرض ملكاً لرجلين: سهل وسهيل فقال: (ثامنوني عليها، قالا: خذها، قال: بل بالثمن، فاشتراها منهما بعشرين ديناراً ذهباً، دفعها أبو بكر رضي الله تعالى عنه في حينه)، وهذه من مكرمات أبي بكر.
نزل صلى الله عليه وسلم بيت أبي أيوب، ففرح الأنصار بنزول رسول الله، وكان أشد الفرح من الحي الذي نزل فيه، وفي كل ليلة كان يجتمع على باب أبي أيوب القصعة والقصعتان والثلاث والأربع والخمس، كلهم يريدون أن يحصلوا على شرف وبركة أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم من طعامهم.
لما نزل صلى الله عليه وسلم نزل في الدور الأول، وأبو أيوب وأم أيوب في الدور العلوي، تقول الرواية: استيقظ أبو أيوب ذات ليلة، وقال لـ أم أيوب: (كيف ننام في علوٍ رسول الله تحته؟!).
انظروا يا إخوان! لا أحد يقول لي: حرام وحلال؛ أو دليله في كذا، فهذا إحساس وشعور بالتعظيم، وتكريم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وشعور الإيمان، قال: (كيف ننام في علوٍ رسول الله تحته؟! يقول: فتجنبنا جانباً ونمنا إلى الصباح، ورواية أخرى تقول: انكسر حِبٌّ لنا -الحِب: الزير الصغير- فقمت أنا وأم أيوب فزعين، وعندنا قطيفة واحدة هي لحافنا، فقمنا نجفف الماء مخافة أن يقطر منه شيء على رسول الله فيؤذيه).
وسواء كان الإحساس الأول أو كان الخوف الثاني، فكل ذلك يدل على توقير وتكريم واحترام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(فلما أصبح الصباح غدوت على رسول الله وقلت: يا رسول الله! أما البارحة فلم أنم لا أنا ولا أم أيوب، قال: وما ذاك؟ فذكر له إحدى الروايتين، وقال: يا رسول الله، أريد أن تكون أنت في العلو؛ لأنك يوحى إليك، ونحن نكون في الأسفل، قال: يا أبا أيوب في الأسفل أهون عليّ، وأرفق بأصحابي الذين يأتونني).
انظر المراعاة إلى أين؟! قال: عندما أكون في الدور الأول يجيء الذي يزورني فيجدني أمامه؛ لكن إذا كنت في الأعلى احتاج الزائر إلى الصعود ففيها مشقة عليك وربما مشقة على أصحابي.
قال: لا يا رسول الله، أنا لا أستريح أبداً وأنا فوق، فنزل على رغبته، وكان صلى الله عليه وسلم في علو البيت وأبو أيوب في أسفله.
كان أبو أيوب رضي الله تعالى عنه إذا صنع الطعام يقدم القصعة أولاً لرسول الله، فيتناول منها ما شاء الله، ثم يأخذها أبو أيوب، يقول: ونتتبع مواضع يده التماساً للبركة، وفي يوم من الأيام رجعت إلينا قصعتنا ولم نرَ فيها أثر أكله منها، فقمت وصعدت حالاً: أستغفر الله وأتوب إليه يا رسول الله! ماذا فعلنا حتى غضبتَ علينا ولم تأكل طعامنا، فقال: (يا أبا أيوب، ما غضبت عليك، وما تركته غضباً، ولكن فيه من تلك البقول -كان فيها كرَّاث ونحوه- فكلوا أنتم، قال: كيف نأكل ما لم تأكله أنت؟ قال: لستُ كأحدكم، إني أناجي من لا تناجون)، هنا عادت الفوارق؛ أنا ما آكل منها، ولا يليق لي أن آكل منها؛ لكن أنتم كلوا.
إذاً: هناك أشياء تكون من خصائصه صلى الله عليه وسلم يُمنع منها وتُباح للأمة، كما يوجد العكس؛ فقد تكون هناك أشياء تباح له صلى الله عليه وسلم وتحرم على الأمة، ويسمونها الخصائص.
مما أبيح له وحرم علينا: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:٥٠] وكذلك الوصال: (لستُ كأحدكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني).
إذاً: وبعد ذلك لم يضعوا له في الطعام من هذه البقوليات، وبقي في بيت أبي أيوب حتى تحول وبنى بيوتاً لزوجاته، وأول ما بنى لـ عائشة.