عناية الإسلام قبل كل شيء بالمسجد؛ لأن المسجد هو قصبة البلدة، وبيت الأمة، والمجمع الأكبر، ويكفي فيه قوله سبحانه:{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا}[آل عمران:٩٦]، فأول شيء وضع هو المسجد، ولكن لم وضع؟ بعضهم يقول: وضع للعبادة، ووضع لكذا، نقول: بل وضع للعمران، أول بناء وأول حضارة وأول استقرار إنما هو للبيت الحرام، وهكذا النبي صلى الله عليه وسلم أول ما وصل قباء باشر بناء المسجد؛ لأن المسجد قاعدة تجمع، ومن ثم يكون الانطلاق.
وأمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه كان على هذا المنهج، فلما أراد أن يبني الكوفة قال لقائدها: اختر مكاناً رابياً -أي: مرتفعاً؛ لأنه أنقى للهواء- ثم اختر رجلاً رامياً يقف وسط المكان ويرمي إلى الجهات الأربع، وعليه فخط المسجد حيث وقف، واجعل بناء البيوت حيث وقعت السهام، واجعل ما بين البيوت والمسجد ميداناً عاماً.
أين تخطيط المدن على هذا المنوال؟ نحن عندنا إمكانيات لبناء شوارع متسعة، ولكن بعد خمس عشرة سنة نريد أن نوسعها؛ وذلك بسبب قصر النظر، فهذا التخطيط الذي فعله عمر كان لمئات السنين، أما تخطيطنا فلعصرنا ولوقتنا، شارع عرضه مائة متر، ويخطط على مائة متر، وينفذ على خمسين، والأراضي واسعة، وأنت تأخذها ثم تتركها حتى تقام العمائر، ثم تهدم وتوسع.
عمر اعتبر المسجد قصبة القرية الجديدة والبيوت من حوله.
فعني صلى الله عليه وسلم بمسجد قباء، ويتفق علماء السيرة والتاريخ: أن النبي صلى الله عليه وسلم انتدب الناس وقال: من يركب الناقة؟ قالوا: فلان، وبعضهم يقول: هذا في حلبها، وبعضهم قال: أمر رجلاً أن يركب القصواء وترك لها زمامها، فاستدارت دورة كاملة يخط على أثرها المسجد؛ فخط المسجد، وعند وضع المحراب، وليس هو بمحراب مبني؛ يقولون: إن جبريل عليه السلام أتى رسول الله وأراه المكان حتى رأى الكعبة، وقد وضعت قبلة المسجد على ما رأى.
ثم كانت فضيلة هذا المسجد (أن من خرج من بيته متطهراً إلى قباء، فصلى في المسجد ركعتين كان له كأجر عمرة) ولا نناقش في سند هذا الحديث؛ فهذا عند جمهور المحدثين معمول به.