إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام كم تحمل من قومه، وكم صابر مع أبيه! إلى حد أنهم جمعوا له الحطب وأوقدوا له النيران وألقوه فيها، وهو صابر لم يفر.
ويذكر ابن كثير وغيره أنهم حينما صعب عليهم إلقاءه في النار مباشرة لعجزهم وعدم استطاعتهم الدنو منها لشدة لهيبها، جاء الشيطان وأوحى إليهم بعمل المنجنيق، والمنجنيق يرمي بالثقل إلى مسافة بعيدة، إلى أن جيء بإبراهيم ووضع في المنجنيق وهو صابر، ويأتيه جبريل ويقول: يا إبراهيم ألك حاجة؟ فيقول: أما إليك فلا، وأما إلى ربي فنعم.
كلمات موجزة، وهذا كما يقولون: لكل مقام مقال؛ لأن الوقت ضيق، ولا حاجة لكثرة الشكوى ولكثرة الكلام، وكأنه يقول: علمه بحالي يغني عن سؤالي، وهل حالي خاف عليه حتى أقول له: ارحمني؟! فإنه مطلع وعالم وراءٍ، وهو يعلم.
فصبر وتحمل وقاوم إلى أقصى حد، فكانت نتيجة صبره ونتيجة اتكاله على الله:{قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا}[الأنبياء:٦٩] كوني برداً ومع البرد سلام؛ لأن البرد قد يقتل، فتأتي القدرة الإلهية وتسلب النار خاصية إحراقها التي تذيب الحجر وتصهر الحديد؛ لأن الذي خلق إبراهيم وخلق النار واحد، وهو الذي أعطاها قوة الإحراق واللهيب وهو الذي يسلبها منها، بعد هذا خرج هو وسارة وكانت قضيتهما طويلة.
نأتي إلى موسى عليه السلام، فإنه لما خرج إلى المدينة، وجد واحداً من شيعته وآخر من عدوه يقتتلان، فاستنصره الذي من شيعته، فضربه فقتله، ثم خرج وقابل الرجل الصالح أو النبي شعيباً، وتزوج ثم رجع، وجاء وكان من أمره أن الله سبحانه وتعالى في عودته يناديه ويناجيه ويبعثه إلى فرعون، فماذا كانت النتيجة؟ فرعون يذبح الأبناء ويستحيي النساء من قبل، والجو جو قاتل، وجاء موسى بالآيات، ولكن فرعون كابر أمام تلك الآيات {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ}[النمل:١٤]، فما كان من موسى عليه السلام وبني إسرائيل وقد أدركهم الضغط والتعذيب والتشريد والإيذاء من فرعون وجنوده إلا أن أمره الله أن يخرج ببني إسرائيل، فخرج، فماذا كانت النتيجة؟ البحر أمامهم وفرعون يكاد أن أدركهم، فيقول أصحاب موسى:{إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}[الشعراء:٦١]، ولكن موسى موقن بالله، فقد خرج بأمر من الله، وهو يعلم بأن الله لن يتخلى عنه {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي}[الشعراء:٦٢]، وما دام معه ربه فلم يخاف من فرعون؟ ولم يخش البحر؟ {سَيَهْدِينِ}[الشعراء:٦٢]، أي: يرشدني ماذا أعمل؛ لأن قوة موسى أمام قوة فرعون ليست بشي.
أيضاً تأتي المعجزة والقدرة الإلهية فتتدخل، فأوحى ربك إلى موسى {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ}[الشعراء:٦٣]{فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا}[طه:٧٧] الماء الرجراج السيال، البحر المتلاطم، فيجمد الماء ويصير طرقاً، والأرض يابسة، وبنو إسرائيل كلهم اثنا عشر سبطاً، كل سبط لهم طريق مستقل يسيرون فيه، والطود الذي بين هذا الطريق وذاك الطريق فيه نوافذ حتى يطمئنوا على بعض، ولا يحدث قلق.
صار الماء جامداً وفيه نوافذ، والذي سلب النار إحراقها سلب الماء سيلانه وأعطاه خاصية اليبوسة والجمود، وترك الطريق لفرعون ولمن جاء، وأغراه الشيطان فدخل، وكانت النتيجة إهلاك فرعون.
إذاً: الرسل هاجروا، وما هاجروا إلا بعد أن أوذوا وصبروا، ولم يبق من طاقة الإنسان كبشر أن يتحمل؛ لأن الإنسان مهما كان سيؤذى وربما يتحمل لكن إلى متى؟ فكانت الهجرة.