[إرادة الله الخير للناس ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم]
كانت الحياة في مكة على ما وصف جعفر، ولما أراد الله سبحانه وتعالى الخير لبني آدم أو للإنسانية جمعاء بعث النبي صلى الله عليه وسلم.
وبعثة المصطفى صلى الله عليه وسلم تاريخها طويل، وذلك أن الله سبحانه بعلمه وقدرته وإرادته ورحمته رسم ذلك من قبل أن يوجد المصطفى صلى الله عليه وسلم، بل وقبل أن توجد هذه الأمة، وأخذ العهد على جميع الأنبياء أنه إذا جاءهم ليؤمنن به ولينصرنه، وجاء عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام وأعلن البشارة بمجيئه صلوات الله وسلامه عليه لقوله:{وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}[الصف:٦] فسماه باسمه.
بل إن المولى سبحانه يسجل لرسول الله حق الرسالة، ويسجل لأصحابه الذين معه صفاتهم ومثلهم في الأمم الماضية قبل مجيئهم، وذلك في أواخر سورة الفتح في أمر الحديبية من أول السياق:{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا * هُوَ الَّذِي}[الفتح:٢٧ - ٢٨](هو) ضمير الشأن راجع إلى المولى سبحانه: {أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}[الفتح:٢٨] و (الدين) اسم جنس أي: على الأديان كلها: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا}[الفتح:٢٨].
لاحظوا يا إخوان هذا السياق: جاء في سورة الصف: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[الصف:٩] وفي سورة الفتح: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا}[الفتح:٢٨] وفي سورة التوبة: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[التوبة:٣٣] وتذييل القرآن الكريم على السياق الواحد بتذييلين متغايرين يدل على مغايرة الموقف؛ لأن الموقف في سورة الفتح تكريم لرسول الله ولأصحابه معه؛ لأنه بعد السياق:{وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا}[الفتح:٢٨] أي: على هذا الوعد: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ}[الفتح:٢٧ - ٢٨] يعني: هو الذي يتولى أمره، ولم يكله إليكم، أي: ما دام هو الذي أرسله سيتولى تمديد وإبلاغ تلك الرسالة بتأييد من عنده.
وكفى بالله شهيداً على إتمام ذلك وإنفاذه، ثم تأتي شهادة من عند الله بالجملة الاسمية:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ}[الفتح:٢٩] وهذا ردٌ على ما جاء به سهيل بن عمرو حين جاء يفاوض وكتبوا الاتفاقية، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:(اكتب يا علي: هذا ما صالح أو عاهد عليه محمد رسول الله) قال: لا تكتب! لو كنت أعلم أنك رسول الله ما صددتك عن البيت، اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله، اكتب اسمك واسم أبيك، فكأن المولى تعالى يقول: إذا هم لم يشهدوا أنك رسول الله، فإن الله يشهد أنك:(محمد رسول الله) ولو أبى أولئك الناس.