يقول ابن كثير: فلما وصلا إلى فم الغار قال أبو بكر للنبي عليه الصلاة والسلام: (على رسلك يا رسول الله حتى أستبرئ لك الغار) السين والتاء في الفعل للطلب، كما تقول: أستفسر أستشفع، أي: أطلب البراء في الغار من كل ما يخشى منه، والغيران في تلك المناطق مظنة الهوام والوحوش والحشرات، فينزل أبو بكر رضي الله تعالى عنه ويتحسس أرض الغار حتى يستأمنها ثم يقول لرسول الله: أنزل على بركة الله يا رسول الله.
فينزلون في الغار، وقد كان أبو بكر رضي الله تعالى عنه من تجار مكة، وكان عنده ولده عبد الله، فقال: يا عبد الله انزل في النهار إلى مكة وكن مع الناس لتسمع ما يقولون، وفي الليل تأتي لنا بالخبر، فكان عبد الله أشبه بجهاز إعلامي، ولكن إذا غدا عبد الله في النهار وذهب في الليل فإن أثره سيظهر في الطريق، فيكون دليلاً على مكان رسول الله وأبي بكر، ولذلك أمر أبو بكر داعيه عامر بن فهيرة بأن يأتيه بالغنم ليلاً ليمحو الأثر ويسقيهما من اللبن، فأحكمت الخطة.
ولما أصبح الصبح وعلمت قريش بالخبر، وأن النائم هو علي بن أبي طالب أسقط في أيديهم، ومن المعلوم أن نوم علي وبقاءه في مكة كان لأمرين: الأول: للتمويه، والثاني: لرد الودائع التي كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهلها، فالعجب كل العجب كيف يأمنونه على أنفس ما لديهم من أموالهم ولا يأمنونه على (لا إله إلا الله)! وهنا نقطة عظيمة جداً في الأخلاق والأمانة والوفاء، فقد كان القوم يتآمرون على قتله صلى الله عليه وسلم، وهو يحتال لأجلهم لرد أماناتهم إليهم، ولم يأخذها معه، فأي وفاء وأي أمانة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والعلة في عدم ردها قبل هجرته عليه الصلاة والسلام؛ لئلا يفشي أمر الهجرة وتفشل الخطة.
ثم لحق علي برسول الله صلى الله عليه وسلم وأدركه في قباء قبل أن ينزل المدينة.
هناك في الغار يأتي الطلب، واقتفوا آثار الأقدام فدلتهم إلى الغار، وهذا شيء طبيعي، وحينما وصلوا إلى الغار وقفوا حائرين بين ما ترى أعينهم وبين ما تدرك عقولهم، وقفوا وقالوا: واعجباً! هذا الأثر يقودنا إلى الغار، ولكن الغار على بابه نبت نابت متدل إلى الأرض ولم يقطع، مما يدل على أن أحداً لم يدخل.
ويجدون على فم الغار نسج عنكبوت يملأ فتحة الغار، فمتى جاء العنكبوت ونسج هذا الستار الكبير على باب الغار! ويجدون على فم الغار عش حمامة وفيه بيضة، فمتى جاءت الحمامة وبنت عشها وباضت؟ عيونهم تردهم، وعقولهم تدفعهم، فوقفوا في حيرة بين منطق العقل بأن الأثر توقف هنا، وبين رؤية العين بأن فم الغار لا يسمح بدخول أحد.
فأمام تلك المشاهدات رجعوا من فم الغار، وما الذي ردهم وصدهم: هل هي الجيوش المجيشة، أم هم الفرسان الأشداء؟ لا، إن الذي ردهم من أضعف جند الله عز وجل -عنكبوت- قال الله عنه:{وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ}[العنكبوت:٤١] لكأن الله يقول: قوتكم وغضبكم وحميتكم ما هي إلا كبيت العنكبوت الذي شاهدتموه.