[أحداث خيمة أم معبد]
أول حدث: مرور صلى الله عليه وسلم بعد عسفان بامرأة يقال لها أم معبد، كانت تجلس وتطعم وتسقي من مر بها، وكان بيتها نائياً عن بيوت الحي.
فلما قدم صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رأيا بيتاً متطرفاً فقصدا إليه، فوجدا فيه تلك المرأة، فسألها أبو بكر رضي الله عنه: هل عندكِ من لحم أو لبن أو تمر أو شيء تعطينا إياه من باب الإكرام للضيف، أو حتى ما نشتريه بالثمن، قالت: لو كان عندي شيء ما أحوجتكما إلى السؤال، إن كنت يا هذا تريد اللحم فعليك بسيد الحي، أما أنا فامرأة ليس عندي شيء، فنظر صلى الله عليه وسلم إلى شاة ضعيفة خلفها لا تستطيع أن تلحق بالغنم، قال: (ما شأن تلك العنز في طرف البيت؟ قالت: إنها ضعيفة، قال: عليَّ بها).
وفي بعض الروايات: أنهما تنحيا جانباً في ظل شجرة ونزلا، فجاء غلام لـ أم معبد كانت قد قالت له: يا هذا خذ الشاة والشفرة، واذهب بها إلى هذين فقل لهما: اذبحاها وكلا وأطعمانا، فقال صلى الله عليه وسلم: (رد الشفرة وائتني بالقدح، قال: إنها كنز، قال: رد الشفرة وائتني بقدح، فذهب وقال: إنه يقول: رد الشفرة وائتني بقدح).
وفي بعض الروايات قال: (عليَّ بتلك الشاة، فقالت: هي كنز) وبعضها يقول: (أتأذنين لي بحلبها؟ قالت: احلبها إن كان بها حلب)، فأخذها فمسح على ظهرها وعلى ضرعها ودعا الله وأخذ يحلب في الإناء، فملأ الإناء فأعطى أبا بكر وأعطى من معه، ثم شرب وقال: (ساقي القوم آخرهم شرباً) ثم عاود وحلب وملأ الإناء وقال للغلام: (اذهب بهذا لأمك).
وفي بعض الروايات الأخرى: أنه طلب منه شاة فجاء بعنز ضعيف ودعا وحلبها وأعطى أبا بكر فشرب، قال: ائت بغيرها، فجاء بالثانية كذلك وحلب وسقى صاحبهما عامر بن فهيرة، وقال: ائت بغيرها، فحلب فشرب، وهكذا إلى أربع من العنز الضعاف.
فيحلب ويسقي أصحابه ثم يحلب لـ أم معبد، وفي آخر أمر تلك الشاة، تقول أم معبد وكان الوقت فيه قحط وجوع، فبقيت تلك الشاة عندنا بحلبها إلى زمن عمر رضي الله تعالى عنه، وفي عام الرمادة لم يكن في الحي حليب أبداً إلا تلك الشاة، تحلب لهم ولجيرانهم، ببركة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي الأثر: جاء أبو معبد ووجد الحليب قال: يا أم معبد من أين لكِ هذا وليس عندكِ حلوب؟ قالت: مرّ بنا رجل كريم الوجه سمح طلق، وأخذت تعدد صفاته، ومن أراد هذه الصفات فليرجع إليها في كتب السيرة؛ فكل ما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفات جمال الذات وجمال الصفات جاءت بها تلك العجوز، فقال: لئن كنتِ صدقتِ فيما قلتِ فلعله صاحب قريش الذي يطلبونه، قالت: إنه رجل مبارك.
وكانوا يسمونه: حالب الحوائل، والحائل هي التي ليس فيها شيء فهو يحلبها، وكانوا يسمونه: الرجل المبارك، حتى إنه بعد ذلك كثر غنمها، وجاءت إلى المدينة ومر بها أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فعرفه الغلام، قال: هذا صاحب الرجل المبارك، فدعته فقالت: أين صاحبك؟ قال: هو ذاك، قالت: ماذا يكون؟ قال: نبي الله، قالت: خذني إليه، فجاء بها إليه وأدخلها عليه وأعلنت إسلامها، وكساها وأطعمها وأعطاها، وقيل إن أبا معبد جاء أيضاً، بل إن أبا معبد قيل إنه أراد أن يلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم.
إن الدارس للسيرة والمستأنس بأحداثها يقف هنا وقفة: قوم متخففون من الزاد، جاءوا إلى صاحبة خيمة، فأرسلت إليهما فاعتذرت، ثم بطوعها واختيارها أرسلت الشاة والشفرة، وجعلتهما كأنهما أصحاب بيت: (اذبحا وكلا وأطعمانا)، فلم يكن من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرضى بذبح الشاة واكتفى بحلبها، وهنا تساؤلات، لماذا لم يذبح وصاحبتها تريد أن تأكل معهم، وقد جادت بها عن طيب نفس؟ هنا يقول القائل: تلك بداية الرحلة، وهي رحلة دعوة وليست رحلة احتلال، أو اعتداء، أو اغتصاب، ولكنها رحلة دعوة إلى الفطرة السمحاء، والدين الإسلامي دين الفطرة، ولكأنه صلى الله عليه وسلم يقول للعالم: إن رحلتي في الهجرة رحلة سلم وخير وبركة وفطرة ونماء، وليست رحلة إراقة للدماء ولو كان لشاة، وتظل الشاة تحلب لقومها عدة سنين بعد ذلك.