بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: أيها الإخوة! وصل بنا الحديث في قضية الهجرة إلى بيان أسبابها ومقدماتها، ومن تلك المقدمات: الإسراء والمعراج، وقد أُسري برسول الله صلى الله عليه وسلم وعرج به، وعاد من الإسراء وأخبر أم هانئ رضي الله تعالى عنها، فأوصته الكتمان مخافة أن يكذبه قومه، وذلك استبعاداً منها أن يصدقوه، فما استجاب لها، وخرج إلى الكعبة وهي تمسك بردائه، فيذهب ويجلس وينفرد عند الكعبة عن أندية قريش، ويمر به أبو جهل ويسأله من باب الاستغراب: هل من جديد يا محمد؟ فيقول: بلى.
فيخبره بحدث الإسراء والمعراج، فإذا به يطير تعجباً ويقول: إذا ناديت القوم أتخبرهم بما أخبرتني؟ قال: بلى.
وهنا يتساءل الإنسان: لماذا خرج صلى الله عليه وسلم ولم يبادر بإخبارهم؟ ولماذا انفرد في مجلسه وفي بعض الروايات:(فجلس كئيباً يفكر)؟ ولعل الجواب في ذلك بأنه لم يخبرهم ابتداءً لما علم من شدة وقع الخبر على أم هانئ، فعلم أنهم سيكونون مثلها، ولاسيما وهم لم يؤمنوا، أما جلوسه منفرداً وعلى تلك الصورة فهذا يعطينا ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من تحمل المسئولية، فهو الآن بين أمرين: إن أخبرهم فهو يعلم أنهم سيكذبونه.
وإن سكت فقد كتم ما أمره الله به، وهو لا يمكن أن يسكت أو يكتم حقاً {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ}[المائدة:٦٧] ولهذا كان مقام النبوة تكليفاً عظيماً بجانب أنه تكريم وتشريف.
ذهب أبو جهل ودعا القوم، وقال: أخبرهم بما أخبرتني به، فأخبرهم، فقاموا ما بين مصفق ومصفر مستبعدين هذا الحديث، وذهبوا إلى أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وقالوا: ألم تسمع ما يقول صاحبك؟ قال: وماذا قال؟ قالوا: يقول إنه أسري به إلى بيت المقدس، ثم عرج به إلى السماء في ليلة! قال: إنه لم يقل ذلك.
قالوا: بلى إنه قال؛ فهلم واسمع منه.
قال: إن يكن قاله فقد صدق! قالوا: أتصدقه في أنه أتى بيت المقدس ورجع في ليلة، قال: بلى.
ثم كشف لهم عن حقيقة الأمر، فقال: إني لأصدقه على خبر السماء -ومعلوم أن ما بين السماء والأرض خمسمائة سنة، وسمك كل سماء خمسمائة سنة، وما بين كل سماء وسماء خمسمائة سنة- فكيف لا أصدقه على بيت المقدس؟