[الإنسان وفطرته المكونة من عنصرين]
ماذا فعل الإسلام؟! لكي نعلم ماذا فعل نجد أن الإسلام دين الفطرة، ولا يكلف الإنسان إلا بمقتضى ما افترض الله عليه؛ لأن الذي يطلب من إنسان خلاف فطرته يكلفه بشيء غير مستطاع؛ لأنك تطلب منه غير ما جبل عليه، تطلب من الحديد ذهباً؟ لا.
تطلب من الرمال فضة؟ لا يمكن، لكن تطلب من اللبن جبناً، وتطلب منه زبدة؟ نعم؛ لأنها موجودة في ذاته، افعل الطريقة التي تخلص بها الزبدة من الحليب وهكذا.
فطرة الإنسان في ذاته مكونة من عنصرين: العنصر الأول: العنصر المادي، الماء والطين، وهذا موجود من أول ما خلق الله آدم عليه السلام، حيث كان العنصر المادي من تراب: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} [ص:٧١] والطين: تراب وماء، ثم: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر:٢٩].
إذاً: الإنسان من أول ما خُلق خُلق من مادة وروح، وهكذا إلى اليوم وإلى ما شاء الله، كل مولود مكون من عنصرين: مادة وروح، المادة ترجع إلى أمور الماديات في الدنيا، طعام وشراب وزواج وتكاثر، والروح مرجعها: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:٨٥].
كان منهج الإسلام على أساس هذا التكوين الفطري للإنسان، أما عنصر الروح فهذا كما قال تعالى: {مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:٨٥] وما دام أنه من أمر ربي فليس للبشر التصرف في الأرواح، فلا يستطيعون تكييفها وتمزيجها أبداً، ومردها إلى الله: (الأرواح جنودٌ مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف).
وكانت منحة وهبة وعطاء من المولى سبحانه: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:١٠٣] وقال: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال:٦٣].
إذاً جانب الروح موكولٌ إلى الله، والله سبحانه امتن على هذه الأمة وذكرها بهذا الامتنان وتلك النعمة: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:١٠٣] إلى مائة سنة كما تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (في حرب طاحنة ما وضعت أوزارها ولا توقفت رحاها إلا قبل الهجرة بخمس سنوات) وتقول أم المؤمنين رضي الله عنها: كانت تمهيداً لمقدم رسول الله فقد كرهوا حياة القتال، وكرهوا الحروب التي ظلت لمدة مائة سنة، يعني: يولد المولود فيها ويشب ويقاتل ويموت ويأتي ولده من بعده أيضاً شرير؛ إذاً: (كنتم أعداء) تلك العداوة سببها أمور الدنيا، لا يوجد دين يتقاتلون عليه، فالله سبحانه وتعالى امتن عليهم وألف بينهم وأصبحوا بنعمته إخواناً، تلك النعمة هي نعمة الإسلام حينما ذهب نفر منهم إلى الحج في موسم الحج قبل الهجرة وبعد البعثة، ولقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرض عليهم الإسلام فقبلوه، وقالوا: لا تسبقكم اليهود عليه، فكانت تلك النعمة أولى أبواب الرحمة التي فتحها الله لهم، وكانوا بنعمته سبحانه إخواناً.
الجانب المادي: لو نظرت إلى الكون بكامله، لا تجد فيه فردا مطلقاً قط إلا المولى سبحانه وتعالى، فهو واحد أحد فرد صمد، أما ما عداه فهو مفتقرٌ إلى غيره.
وكما يقول علماء الاجتماع: فالإنسان مدني بطبعه، يعني: طبيعته أن يعيش مع غيره، يتعاونون على أمور الحياة، وكما يقولون في العصر الحجري -أو ما قبله على ما يسمونه تسمية من عندهم- في أعماق التاريخ قبل أن يسكن الإنسان البيوت كانت الكهوف، والله تعالى أعلم، فكان يخشى الإنسان عادية الوحوش، فيتجمعون ليحمون أنفسهم، ثم جاءت الحراثة والصناعة، هذا يحرث وهذا يطحن وهذا يخبز وهذا كذا، إلى أن تعاون الأفراد في حياتهم، وأنت الآن تجد الناس من القمة من رئيس الأمة ومن أولي الأمر والخليفة والملك إلى رجل الشارع إلى البواب في عمارته وأبواب قصره، الكل يتعاون في حياته، لا الملك يستغني عن البواب عند الباب، ولا البواب مستغن عن الملك، هو يعطيه المكافأة، وهكذا الحياة معاوضة، إذا جئت إلى الكائنات الأخرى تجد المزاوجة ولا تجد الفردية، تجد سماء يقابلها أرض، بحار يقابلها جبال، تجد النباتات تلقيح ما بين ذكورة وأنوثة، حتى الكهرباء الآن سالب وموجب، ما في واحد منها يستقل بذاته.
إذاً: التضامن والتآخي وجمع الأجناس أمرٌ كوني فطري يقوم العالم عليه، والقاعدة قبل هذا: الناس للناس من بدو وحاضرة بعضٌ لبعض وإن لم يشعروا خدم وكل محتاج إلى الآخر في أمور الدنيا، الروح من عند المولى سبحانه، بقيت أمور الدنيا يأتي القرآن الكريم فيرد الناس إلى الأصل ويربطهم بالمنبت الأول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [الحجرات:١٣] ما قال: يا أيها المؤمنون، أو الذين آمنوا أو الأتقياء، بل (يا أيها الناس) عربكم وعجمكم، مسلمكم وكافركم، شرقيكم وغربيكم: {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى} [الحجرات:١٣] ولذا يقول علي رضي الله تعالى عنه: الناس من جهة التكوين أكفاء أبوهم آدم والأم حواء فإن يكن أصلهم شرف يفاخرون به فالطين والماء وهذا التفاخر من جانب أمور مقاييس الحياة، والله قد جعل مقياساً ثابتاً فقال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:١٣] وليست مجرد دعوى، ولهذا الأصل لو رد كل إنسان إلى أصله إذاً أنا وأنت أخوان، أنا وأنت أبونا وأمنا آدم وحواء وإن بعدت المسافة بيننا، لكن هناك خيوط مثل خيوط الشبكة، فكذلك كل فردٍ في العالم يجره خيط فيربطه بآدم وحواء.
وجاءت قصة عن معاوية مع الأعرابي الذي دخل عليه وقال: أسألك بالرحم الذي بيني وبينك إلا أعطيتني عطائي، فقال معاوية: رحم بيني وبينك وأنا قاطعه؟! قال: نعم، قال: والله أخطأنا، لكن لا أعرف رحماً بيني وبينك حتى أقطعه، وقد نسيت، فذكرني! قال: الرحم الذي بيني وبينك في آدم وحواء، فقال، نعم.
هذا رحم ثابت، ما أستطيع أن أنكره وهذا يستحق الصلة، فكتب له بدرهم، وأخذ الكتاب وذهب إلى بيت المال وهو فرحان، فإذا ببيت المال يعطيه درهماً، فيقول: الخليفة يكتب العطاء بدرهم! قال: هذا الذي كتب لي، قال: ارجع إليه، فرجع وقال: ما هذا يا معاوية! أنت بنفسك تكتب وتتعب نفسك لبيت المال بدرهم! قال: والله يا أخا العرب لقد سألتني برحم لو أنني وصلت هذا الرحم كله بدرهم ما بقي في بيت مال المسلمين درهم.
ما قال له: ليس بيننا رحم، لكن قال: الرحم موجود ولكن العطاء بقدره.