للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[بيعة العقبة]

كانت قضية الطائف تجمع بين الأسباب والمقدمات، لكن من المقدمات الفعلية: أن النبي صلى الله عليه وسلم في موسم الحج كان يأتي القبائل في منازلها، وكانت منى والمزدلفة وعرفة أسواقاً من أسواق العرب، وكانت عرفة وذو المجاز وعكاظ على طريق اليمن، والقبائل تأتي إلى عكاظ من الطائف، فمنى كلها أسواق تجارية للعرب تجتمع فيها، ويعلنون فيها انتاجهم الأدبي، فالشاعر ينشد قصيدته، والخطيب يلقي كلمته، والتاجر يبيع سلعته من الحيوانات أو غيرها من المبيعات، ويتبادل الناس السلع والأغراض في تلك الأسواق.

فالمشاعر كانت أسواقاً في الجاهلية، وكانت أيضاً أماكن عبادة في الحج، فكان صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل في مواسم الحج، ويأتي القبائل في منازلها، ويقول لهم: أنا رسول الله، هل فيكم من يحميني حتى أبلغ دعوة الله؟، مرة قال له رجل: أنا أحميك فماذا لي من بعدك؟ قال: لك ما للمسلمين، قال: لا؛ بل يكون لي الأمر من بعدك، قال: ما هي مساومة ولا ميراث.

فكان يعرض نفسه صلى الله عليه وسلم على القبائل، وقبل الهجرة بسنتين جاء نفر من الأوس أو الخزرج ومعهم سيدان من ساداتهم، قال: من أنتم؟ قالوا: من الخزرج، قال: من حلفاء يهود؟ قالوا: بلى، قال: ألا تجلسون أُحدثكم؟ قالوا: نعم، فجلسوا، فحدثهم وقال: أنا رسول الله، ألا تتبعونني! ألا تؤمنون بي، ألا تبلغوا قومكم.

فلما سمعوا كلمة: (رسول الله) كان ذلك شيئاً جديداً عليهم.

وكان من المقدمات السابقة للهجرة أن أهل المدينة كانوا أصنافاً متعادين: اليهود ثلاث قبائل: بنو قريظة، وبنو النضير، وبنو قينقاع، وأما العرب فكانت: الأوس والخزرج، وأحياناً تقوم حروب بين الأوس والخزرج، وبعضهم يستنصر بقبائل اليهود، وأحياناً تقوم الحرب بين العرب وبين اليهود، فلما تضيق الضائقة على اليهود يقولون: سيبعث نبي آخر الزمان، ونتبعه ونقاتلكم معه، ثم نفنيكم كما أفنيت عاد وثمود، يهددونهم بالنبي الذي سيأتي، فلما سمعوا كلمة: أنا نبي، وهم كانوا موجودين في الحرم، قال بعضهم لبعض: لعل هذا هو النبي الذي يتوعدكم به اليهود، وعندهم خبره، واليهود لا يدرون من هو هذا النبي، ومتى يكون، لكن هذه إرهاصات ومقدمات.

فكان عندهم خيال وسماع عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا بهم يجدون النبي أمامهم، فقالوا: لا تسبقكم يهود إليه، فتعاهدوا معه ورجعوا إلى المدينة خفية، وانتشرت الأخبار خفية عن اليهود، وفي العام الثاني يذهب من المدينة من الأوس والخزرج سبعون بدل السبعة، وتواعدوا أن يجتمعوا عند العقبة في آخر الليل، وكان صلى الله عليه وسلم قد أرسل مصعب بن عمير ليعلم أهل المدينة، وقصته طويلة.

فجاءوا بعد نصف الليل إلى العقبة، وجاء مع رسول الله العباس رضي الله تعالى عنه يستوثق له، فقال لهم: أتبايعونه على الهجرة إليكم؟ قالوا: نعم، وله علينا عهد أن نحميه مما نحمي منه أنفسنا وأولادنا، فقال: يا معشر الأوس والخزرج! إن كنتم واثقين من أنفسكم وبيعتكم فذاك، وإن كنتم تخشون أن تتكالب عليكم العرب وتتراجعون عنه فإنه في منعة من قومه، فقالوا: نحن على عهدنا، فقال صلى الله عليه وسلم: أخرجوا لي اثني عشر نفراً منكم، يكونون نقباء عليكم.

فأخرجوا له اثني عشر رجلاً، وكانوا نقباء على قومهم، ومن العجيب أن هذا العدد -اثني عشر نقيباً- يعادل عدد أسباط بني إسرائيل! كما قال الله: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة:٦٠]، فكانوا اثني عشر سبطاً، والأسباط في بني إسرائيل كالقبائل عند العرب، فكانوا اثني عشر نقيباً، ونصبهم نقباء على هؤلاء، وتمت البيعة.

تمت البيعة في آخر الليل والناس بمنى نائمون، لا أحد منهم يعلم بالبيعة، هنا يأتي موقف على طالب العلم، بل وعلى كل رجل سياسي، بل وعلى كل شخص مسئول، يقف الرسول صلى الله عليه وسلم موقف المسئولية، ويقدر الأبعاد، وكان الرسول يعرض نفسه على القبائل، ولم يواجه أحداً، فهؤلاء بعد البيعة -وهم عدد لا يستهان به- قالوا: (يا رسول الله! ائذن لنا) بدون فوضى، بل يلتزمون بالأمر، ويستمعون ويطيعون، ولا يتصرفون إلا بعد الأمر قالوا: (ائذن لنا أن نميل على أهل الموسم بأسيافنا)، وهم وإن كانوا سبعين فقط، والقوم سبعة آلاف نياماً وآمنين، فالقلة المسلحة التي تأتي على تبييت نية وغدر؛ يمكن أن تقتل الآلاف، فماذا كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل قال: هيا خذوا حقي، هيا انتصروا؟! لا والله! بل قال: (إنا لم نؤمر بحرب) أي: مثل ما استئذنتموني فأنا أستئذن ربي، إذاً: المسألة ليست فوضى، هم يستأذنون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويطلبون الأمر والإذن منه، وهو ينتظر الأمر من الله، وهكذا الكون، وهكذا النظام، وهكذا تكون الأمة ويستقر أمرها، أمة ضاربة بين يدي رسول الله، ولكن مع القوة الضاربة حلم وعقل ورشاد وثبات وصدق ومنهج.

فإذا كان الداعية في أمة ووجد شباباً متحمساً ومندفعاً فلا يدفعهم؛ لأنك إذا كنت على سفح جبل، وأمامك صخرة فلن تقدر على أن تحركها، لكن إذا جاء سيل ودفعها من فوق فإنك تستطيع دفعها ولو كنت ضعيفاً، لكن مع الدفع الشديد الذي حركها إذا أردت أن تدفعها؛ زدت في اندفاعها.

فالشباب المتحمس لا ينبغي أن نزيد في حماسه وندفعه على غير هدى، بل يجب توفير ما يقولون عنه: عوامل الضمان، ولذا فمسيرة الدعوة إلى الله تحتاج إلى قوة وحماس وشجاعة وتضحية، ومعها عقلية، وحلم، وروية، ونظر، وتجاوب، وقيادة حكيمة؛ لأن القوة بدون قيادة حكيمة مثل الوحش، ولكن: الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي المحل الثاني ولولا الرأي يدبر الشجاع لألقى بنفسه إلى التهلكة، ولا قيمة له! يتقدم هؤلاء ويعرضون على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوة ضاربة وحماساً لا نظير له، والرسول صلى الله عليه وسلم يخبرهم بأن الوقت لم يحن، وكل شيء له أوان.

تمت البيعة، وذهب مصعب بن عمير إلى المدينة ليعلم الناس الإسلام، وكان يأتيهم على مياههم، وانتشر الإسلام في المدينة.

وكان هناك مهاجرون في الحبشة، وقد أشرنا إلى موقفهم، ولنتعد هذه الحلقة، ونبقى في المقدمات! إذاً: من مقدمات الهجرة: مجيء نفر من المدينة من الأوس والخزرج، وقد سمعوا من جيرانهم اليهود بمبعث نبي فيقاتلونهم معه، فسبقوهم إليه.

<<  <  ج: ص:  >  >>