[رعاية القرآن للأخوة بالجانب المالي]
حادثتان عجيبتان في هذا الباب يُذكر بها الإخوة أصحاب الأموال؛ ليعلموا أن أداء حق الله هو الخير والبركة والحفظ والنماء.
كلنا يقرأ في سورة القلم قصة أصحاب الجنة، قال الله تعالى: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ * فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ * فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} [القلم:١٧ - ٢٨] يعني: تستثنون حق المسكين، أبوهم كان يخرج حق المساكين كل سنة، ولما مات استكثروه.
فمنعوا الفقراء، فلما بيتوا النية كان أمر ربنا أقرب، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:٣٠].
وانظر إلى الجانب الثاني في الحديث الصحيح: (بينما رجل يمشي في فلاة من الأرض إذ سمع صوتاً في السحاب يقول: اسقي حديقة فلان).
سبحان الله! في قصة أصحاب الجنة: (طاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم)، وهنا: (يا سحابة اسقي مزرعته)؛ فيمشي الرجل في ظل السحابة حتى توقفه على رجل قد أمطرت على أرضه ونزل الماء، وإذا برجل يحول الماء في حياضه، فأقبل عليه: يا فلان، فإذا به رجل غريب يعرف اسمه، فسأله عن اسمه وقال: أخبرني ماذا تصنع في مزرعتك؟ قال: لماذا تسألني؟ فأخبره، قال: إن كان كذلك فإني أقسم ثمرتها أثلاثاً، ثلث أدخره لي ولعيالي، وثلث أعيده فيها السنة الثانية، وثلث أتصدق به.
قال: بهذا سقيت.
الفرق بين الاثنين: أن حديقة أصحاب الجنة قائمة مثمرة منتجة، لكن لما بيتوا النية بأن يحرموا المساكين {طَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [القلم:١٩ - ٢٠]، وهذا لما كان يعطي حق المسكين، كان المولى يتولى مزرعته ويسقيها.
الآن بعض الآبار يبست، وهم يحفرون الآبار والماء غائر، أما هذه فيأتيها السقي من السماء.
إذاً: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة:١٠٣]، تطهر بها قلوب الفقراء، فإذا أصبحت طاهرة وتوجهت إلى الله بالدعاء كانت حرية أن يستجاب لها.
جعل الله الزكاة من روافد إمداد شجرة الأخوة في الإسلام لنمو وتقوية التعاطف بين المسلمين، ولهذا لما عطل الناس هذا المرفق، وسدوه عن شجرة أخوتهم تحول وجاء ما فيه مادة محرقة جاءت الاشتراكية، وقالوا: نحن شركاؤكم في هذا المال، وجاءت مبادئ هدامة أفسدت على الناس حياتهم الاقتصادية، والآن تبدأ روسيا تتراجع ويعلن رئيسها أنه يفكر في السماح للإنماء الفردي بعد تجربة طويلة استمرت أربعين أو خمسين سنة.
فالزكاة من أقوى عوامل الإخاء؛ لأن عدم الزكاة تجعل الناس طبقات؛ واحدة في الثريا والأخرى في الثرى، لكن الزكاة تنزل من في علياء الثريا وترفع من في حضيض الثرى ويلتقيان معاً على صعيد واحد، نعم توجد مفارقة درجات، {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف:٣٢] هذا نظام الحياة، لكن إذا حفظ الغني حق الفقير عنده طابت نفس الفقير ورضيت.
وهكذا أيها الإخوة يأتي الصيام فتجوعان معاً وتجتمعان على منظر لا يوجد في العالم إلا في هذا المسجد النبوي، تمد السفرة ويجلس من لا يعرف بعضهم بعضاً إلا باسم الإسلام، والكل صائم لله ينتظر الله أكبر ويتناول الطعام، إخاء عملي، ممن بالمشرق ومن بالمغرب في هذا الشهر.
ثم يأتي العامل المتكرر اليومي، يقول صلى الله عليه وسلم: (والله لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إن فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)، وقال: (تهادوا تحابوا)، هذه الأخوة التي أوجدها الإسلام في الدنيا بين أفراده تصحبهم إلى أن يدخلوا الجنة: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:٤٧]، حتى من كانت بينه وبين غيره حزازة وخصومة وحقوق في الدنيا زال عنه الحقد ونزع، وعادت القلوب إلى فطرتها، وأصبحت الصدور سليمة {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:٤٧].