وأباح لنا المتاجر المشروعة التي تكون عن تراضٍ بين البائع والمشتري فكأنه قال: افعلوها وتسببوا بها في تحصيل الأموال، وأطلق هذه التجارات ولم يقيدها بتجارة دون تجارة، وقد تقرر في الأصول (أن المطلق يجب إبقاؤه على إطلاقه حتى يرد المقيِّد) فهذا الدليل فيه جواز جميع أنواع التجارات، فمن حرم تجارةً وأخرجها عن هذا الإطلاق فعليه الدليل، فقولنا في القاعدة:(الأصل في المعاملات الحل والإباحة) هو قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمًْ} سورة النساء الآية ٢٩، وقولنا (إلا بدليل) هو قوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} سورة النساء الآية٢٩، فهذا الدليل نص في المطلوب أيضاً والله أعلم.
ومن الأدلة أيضاً: أن الصحابة على عهده - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يزالون يتبايعون بسائر أنواع المعاملات من غير سؤال عن حلالها وحرامها، مما يدل على أن الأصل المتقرر عندهم هو الحل والإباحة، وأقرهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك، ولم يثبت عنه أنه أنكر عليهم ذلك إلا أنواعاً من المعاملات ثبت تحريمها لما فيها من الغرر أو الربا أو المخادعة، لكن لم يقل لهم: لا تتعاملوا إلا بمعاملة ثبت حلها. مما يدل على أن الأصل الحل والإباحة، ولا أقول: الصحابة فقط! بل الناس جميعاً من زمانهم إلى زماننا هذا يتعاملون في أسواقهم بشتى أنواع المعاملات من غير نكير مما يدل على إجماعهم على أن الأصل في هذه المعاملات الحل والإباحة. ومن الأدلة أيضاً: أن المستقرئ لأدلة الشريعة في سائر أبواب كتاب البيع يجد أن الأدلة حرصت على بيان العقود المحرمة فقط، فغالب الأدلة الموجودة إنما هي في بيان ذلك، وهذا يدلنا على أن الأصل هو الحل والإباحة وإنما المراد بيان ما هو محرم فقط، كذلك باب العبادات فالأدلة فيه غالباً تبين ما يجوز منها فقط، أما ما لا يجوز فهو نزر قليل مما يدل على أن الأصل فيه المنع، فالشريعة تحرص على بيان المحرم منه، وباب المعاملات غالب الأدلة فيه إنما هي في بيان المعاملات المحرمة فدل ذلك على أن الأصل فيه الجواز والحل، والله أعلم]. قواعد البيوع وفرائد الفروع, وغير ذلك من الأدلة التي لا يتسع المقام لتفصيلها.